بين إحياء زمن الفن الجميل والعروض الراقصة تتنوع النشاطات الفنية في مسارح بيروت، في فبراير الجاري، وهي تكملة لظاهرة انطلقت منذ سنتين تقريباً وتطورت أكثر هذا العام، بعد الإقبال الذي تشهده من الجمهور اللبناني الذي اشتاق للاستماع إلى أغنيات النصف الأول من القرن العشرين سواء العربية أو اللبنانية، لا سيما أن تقديمها يندرج ضمن ديكور متكامل يعود إلى تلك الحقبة، وحضور عروض راقصة تنقله بالحركة إلى عوالم بعيدة عن سطحية بعض كلمات الأغاني.
مسرح «مترو المدينة» في قلب شارع الحمرا، وضع على روزنامة نشاطاته حفلات طربية تحت شعار «متروفون»، يقدم من خلالها أغنيات لنور الهدى وشادية وعبد الحليم حافظ، وسيد درويش، فضلاً عن أغنيات لمطربين لبنانيين يتمتعون بخامة صوتية مميزة، لكنهم لم ينالوا حقهم.
لماذا «متروفون»؟ يقول القيمون على المسرح: «بما أن الإذاعة اللبنانية قررت التنازل عن دورها في تقديم ما لديها من أرشيف غنائي غني بالمواهب والأسماء اللامعة التي لم تأخد حقها في البث والتسويق الإذاعي، منذ نشأت الإذاعة اللبنانية وحتى أفول نجمها، علماً بأن هذه الجواهر الصوتية واللحنية هي من إنتاج الإذاعة اللبنانية نفسها التي التزمت البث والتسويق لشريحة محددة من الفنانين من دون غيرهم، لا سيما بين ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، وفرضت علينا نجوماً وأصواتاً وتوجهات فنية معينة، وما زالت ترفض بث تلك الأغنيات والأصوات التي كانت تشكل وجهة مكمّلة لتطور الأغنية اللبنانية، ولم يتسنَّ لنا أن نتمعّن بها ونغوص في دلالاتها لندرة بثها وتسويقها، فكان لا بد لنا وليكتمل المشهد الغنائي الذي حُصِر «بالفن الرحباني وقليل من وديع الصافي وصباح وزكي ناصيف «أحياناً»، أن نبحث عن مكونات المشهد الكامل للأغنية اللبنانية، فكانت فكرة متروفون، وهو استحضار لأرشيف الإذاعة اللبنانية القابع في المستودعات، لوجهات فنية وتعبيرية ولحنية وكلامية ظلمت بالبث والتسويق، وحُرمنا من تذوّقها واستكمالها، ولجزء من التاريخ الغنائي اللبناني المنسي والمهمل بقصد أو من دون قصد».
بدأت الحفلات بأغانٍ للمطربة وداد، من ثم الديو الشهير جمال وطروب، والفنان الراحل سمير يزبك والصوت الكلثومي الرائع منى مرعشلي، وأخيراً نور الهدى.
بار فاروق
موسيقى المسارح التي كانت منتشرة في بيروت الثلاثينيات وصولاً إلى سبعينيات القرن الماضي قبل اندلاع الحرب اللبنانية، يعيد رسمها «بار فاروق»، عرض غنائي موسيقي يتميز بلوحات تتضمّن عشرات الأغنيات يؤديها 14 فناناً وفنانة موزعين بين موسيقيين، ومغنين، وممثلين وراقصين.
«عين الشيطان» عنوان العرض السمعي البصري الغنائي المسرحي الذي يتناول أغنيات سيد درويش، مؤسس الأغنية العربية بعد عصر النهضة، التي لحنها للمسرح الغنائي في الربع الأول من القرن الماضي.
في عيد ميلاده أهدى سيد درويش نجيب الريحاني صورة فوتوغرافية له مكتوب عليها بخط يده: «من ميّت الى أموات»، من هذه الزاوية نظر القيمون على العرض إلى «فنان الشعب» واقتفوا أثر الوجه الداكن «الشيطاني» عند ملحّن النشيد المصري الحالي.
مصر في النصف الأول من القرن العشرين تحضر بدورها ضمن «هشك بشك شو»، عرض غنائي موسيقي يحاكي موسيقى الأفراح والمسارح التي كانت منتشرة في مصر في النصف الأول من القرن الماضي، من خلال أربع لوحات تتضمّن عشرات الأغنيات يؤديها عشرة فنانين موزعين بين موسيقيين، ومغنين، وممثلين وراقصين يأخذون الجمهور إلى تلك الحقبة من الزمن الجميل. لحلب ولزمن الطرب الأصيل فيها نصيب أيضاً من العروض تحت عنوان «يا رايحين ع حلب»، عرض يتضمن أدواراً، وقدوداً، وموشحات من جلسات الشيخ بكري الكردي مع أستاذ الطرب الفنان صفوان العابد.
عروض راقصة
إلى جانب سهرات زمن الفن الجميل، يشهد فبراير تقديم عرضين راقصين على خشبة مسرح المدينة، «عساهُ يحيا ويشمَّ العبق»، أداء علي شحرور وحلا عمران، كوريغرافيا علي شحرور. و«اللّغة الأم»، عرض راقص منفرد لـبيار جعجع.
«عساهُ يحيا ويشمَّ العبق»، احتفاليّة يخرج الموت فيها من عالمه ببدائيته وعنفه ليشكّل طقساً للحياة. تستدعي المرأة كاهنة العزاء الرجال إلى اختبار الحزن وقسوة الفقدان. تقف كإلهة وتضعهم على عتبة الحياة، ترقّص أجسادهم لتجعل من كآبتها فعلاً للعيش. تدفعهم إلى مساءلة المفاهيم التي التصقت برجولتهم من قوّة وبطولة وصلابة، من جمود وتبلّد وأفول، معريّة هشاشتهم وضعفهم، فاضحة بكثافة صوتها وطاقتها ومرثيّاتها عجزهم. هم وحي كلمات الفراق، لهم الزغاريد والورود في زفات أعراسهم نحو المقابر، تغنيهم كغناء عشتار لتموز، عساها تبث فيهم الحياة.
ختتم هذا العرض ثلاثيّة علي شحرور حول طقوس العزاء وما تحمل من مخزون حركيّ وإشكاليّات حول حضور الجسد.
بعد عرضي «فاطمه» و«موت ليلى»، يأتي «عساهُ يحيا» كجرعة أخرى تستند إلى المرثيّات والرقص والقصص والأساطير المستحضرة من الذاكرة العربيّة والنوعيّات الحركيّة المحليّة، خصوصاً تلك التي تعود إلى منطقة الرافدين أو ما يسمى بأرض السواد».
أما بيار جعجع فيقدم في «اللّغة الأم» عرضاً راقصاً منفرداً من تأليفه وتصميمه وأدائه يمزج فيه بين الرقص المعاصر ولغة الإشارة، ويرسم صورة راقص ولد أصمّ طوّر تدريجاً قدرة جزئيّة على السّمع، ووجد في الرقص المعاني الجوهريّة للتعبير. يظهر هذا العمل الأوّل لبيار جعجع علاقته الفريدة مع الإيقاع والموسيقى والكلمة والإشارة – «لغته الأم».
*****
(*) جريدة الجريدة.