أعمال موسومة بالعنف والحداد والمنفى وتركز على قضايا الانتماء والهوية والتغيير السياسي
كلود أبو شقرا
في كتابها «الكآبة اللبنانية، سينما بعد الحرب الأهلية» الصادر بالفرنسية عن دار «لارماتان»، تعطي المخرجة اللبنانية الشابة ديما الحر صورة عن واقع السينما اللبنانية اليوم التي يبدو أنها ضائعة في متاهات الهوية والانتماء وغائصة في وحول الواقع، وعن جيل يشعر أبناؤه بأنهم غرباء عن العالم وعن أنفسهم، يواجهون تكرار أعمال العنف والحداد والمنفى، ويجرجرون معاناتهم في مدينة هي ورشة بناء لا تنتهي. بين عالم يتهاوى وماضٍ يُمحى، تسكن الكآبة هذه الأفلام التي لا تنتهي حكاياتها أبداً.
يشكل كتاب «الكآبة اللبنانية، سينما بعد الحرب الأهلية»، خطوة إضافية في فرادة السينما اللبنانية وهويتها. في الأصل، موضوع الكتاب هو أطروحة دكتوراه قدمتها ديما الحر في باريس تحت إشراف غي بيسانو، ومنذ فترة وجيزة أصدرتها في كتاب.
في 2006، كانت ديما الحر تعمل على فيلمها الطويل الأول «كل يوم عيد»، وخلال كتابة السيناريو اندلعت حرب تموز في لبنان، فأعادت البلد والناس إلى حقبة كان يعتقد أنها انتهت. كان يمكن أن يكون «كل يوم عيد» فيلماً خفيفاً أو كوميدياً وساخراً. لكن مع التقدّم في الكتابة، باتت أجواء السيناريو ثقيلة، والشخصيات أكثر ظلاماً وكآبة.
«لحرب 2006 أثر مهم في كتابة هذا الفيلم، بالطبع بطريقة لاواعية»، تقول ديما الحر وتضيف: «وجدت نفسي بسرعة أمام السؤال التالي: كيف يمكن الاستمرار في كتابة قصة بدأناها في زمن السلم، وفجأة تعود الحرب من جديد لتهز كياننا ووجودنا؟ عندها قررت الاهتمام بالمخرجين اللبنانيين بعد الحرب، وبهذا النوع من الكآبة الخاصة التي نلاحظها في أفلامهم. أتحدر من هذا الجيل. اشتغلنا جميعاً بشكل مختلف على فكرة واحدة هي الكآبة».
رؤيوية مارون بغدادي
ترجع ديما الحر ولادة هذه الكآبة إلى 1973، سنة تصوير فيلم مارون بغدادي «بيروت يا بيروت»، توضح: «إضافة إلى كونه أخرج فيلماً معاصراً، أعتقد بأن بغدادي فهم الكثير ورأى ما لم يستطع كثر أن يروه، كان رؤيوياً. لم تكن الحرب اندلعت بعد، لكن كان ثمة غليان في الشارع: إضرابات وتظاهرات، وأحداث تنبئ بقرب اندلاع الحرب، وكآبة وليدة. كان البلد على شفة بركان».
في القسم الأول من الكتاب، تعيد الكاتبة رسم تاريخ السينما اللبنانية منذ بداياتها في ثلاثينيات القرن العشرين لغاية اندلاع الحرب بين 1975 و1990، من ثم مرحلة بعد الحرب.
تلاحظ أن الشخصيات في الأفلام في حقبة الحرب كان لها هدف، كان بإمكانها التخطيط للمستقبل. أما بعد الحرب، أي في حقبة أفلام «يوم مثالي» (2005) لجوانا حاجي توما وخليل جريج وأفلام غسان سلهب… فصوّرت السينما شخصيات لا هوية لها ولا تكلّف نفسها عناء البحث عنها. كل ما تفعله البقاء في حداد مستمر لا يمكن تخطيه، تعيش في الماضي ولا تطيق الحاضر ولا تدرك كيفية رؤية المستقبل.
ترجع ديما الحر الكآبة في السينما بعد الحرب إلى مأزق وقع فيه المجتمع بأسره بعد 1990، على أثر خيبات من عدم حدوث تغييرات سياسية كانت منتظرة، واعتقاد بأن هذه الحرب المنتهية على الأرض مستمرة في اللاوعي وفي النظرة إلى المستقبل، ويمكن أن تعود في أي وقت.
أشكال جديدة للطابع الكئيب
هل ستستمر هذه الكآبة مع الجيل الجديد من المخرجين الذين ولدوا بعد الحرب ولا يقاسمون الذين سبقوهم ذكريات مؤلمة ومشاهد عنيفة؟ سؤال تطرحه ديما الحر في كتابها وترى أن انتشار الكوميديا التجارية والشعبية يمهّد لنظرة جديدة إلى السينما ولعلاقة مختلفة مع الواقع، وتدرج في هذا السياق أفلام نادين لبكي التي تتجاوز الطابع الكئيب.
ما الذي تغيّر منذ نهاية الحرب؟ سؤال تطرحه الكاتبة على الدوام ولا تجد سوى إجابة واحدة له: «لا شيء، المشاكل السياسية مستمرة، الحرب على بعد كيلومترات من لبنان، ومن البديهي أن تستمر هذه الكآبة مع الأجيال الجديدة، إنما قد تأخذ أشكالاً مختلفة».
*****
(*) جريدة الجريدة.