وكأنه يقول: لطفاً بنا يا شعلة الثورة لا تنطفئي

لملم شاعر الوجدان المصري سيد حجاب جروحه ورحل

نهاد الحايك والشاعر سيد حجاب

نهاد الحايك

(شاعرة- لبنان)

عندما سمعتُ خبر رحيله، كأن خفقات من القلب رحلت. ليس لأني أعرف شعره ولكن أيضاً لأني أعرفه شخصياً. فقد كان لي شرف التعرف عليه واللقاء به ثلاث مرات. معرفته الشخصية رسَّخت إعجابي بشعره، وكان جمال نفسه وصدقها يحاكي جمال شعره وصدقه، على عكس شعراء كثر يفقد شعرُهم رونقَه في نظرنا عندما نتعرف إليهم.

حضرتُ له أمسيتين شعريتين، واحدة في بيروت في صيف 2012 ألقى فيها قصيدة بعنوان «قبل الطوفان الجاي» كان قد كتبها قبل الثورة التي اندلعت في مصر في 25 كانون الثاني/يناير 2011 وتنبأ فيها باندلاعها.  والأمسية الثانية في القاهرة في أيلول/سبتمبر 2015 ألقى فيها شعراً يعبِّر عن الخيبة مما آلت إليه التغييرات التي كان قد ظن، مع كثيرين غيره، أنها بداية الخروج من نفق الظلم والظلام والتخلف إلى عصرٍ مُشرق.

تَشكَّل حسُّ سيد حجاب الشعري منذ طفولته (ولد عام 1940) على ضفاف بحيرة “المنزلة” في بلدته “المطرية”. هناك كان يحضر مع والده، الذي كان يصفه بمعلمه الأول، المباريات الشعرية بين الصيادين والتي كانت تعرف بجلسات المصطبة. وروى حجاب في مقابلات أجريت معه أن والده “كان يجمع كل أفراد البيت ليلعب معهم “المطارحة الشعرية”، فكان يلقي بيتاً شعرياً ثم على أحدنا أن يلقي بيتاً شعرياً آخر يبدأ بالحرف الأخير من ذلك البيت. وعندما يأتي الدور عليّ لم تكن تسعفني ذاكرتي ببيت شعري حقيقي فكنت أرتجل بيتاً من تأليفي. ومن هنا بدأتُ في كتابة أبيات شعرية متناثرة بشكل ارتجالي، حتى كانت معركة الكفاح المسلح ضد الإنجليز في قناة السويس عام 1951، واستشهد فتى من سني في ذلك الوقت يدعى نبيل منصور، فكتبت أول قصيدة شعرية حقيقية في حياتي وكان مطلعها: كنا غزاة وأبطالاً صناديدا/ صرنا لرجع الصدى في الغرب ترديدا/ لكننا سوف نعلو رغم أنفِهمُ/ ويكون يوم نشورنا في الكون مشهودا”.

وهكذا بدأ كتابة الشعر في سن مبكرة. ورغم اختياره حقل الهندسة لدراسته الجامعية كان عشقه للشعر هو الأقوى فتحول إلى الكتابة. لفت انتباه الشاعر الكبير صلاح جاهين ،  الذي كان يتولى رئاسة تحرير مجلة “صباح الخير”، فنشر له قصيدة «ابن بحر» عام 1961 في زاوية «شاعر جديد يعجبني»، وقال في تقديمه لحجاب: «عندما أبحث عن كلمات أقدم بها هذا الشاعر الجديد لا تلبّيني إلا الكلمات العاطفية، ولو كان هناك حب من اللحظة الأولى، أكون أنا قد أحببت هذا الشاعر من أول شطرة. اسمه سيد حجاب، تذكروا هذا الاسم فإنه سيعيش طويلاً في حياتنا المقبلة وسيكون له شأن عظيم».

ويتضح تأثير عالم الصيادين والبحر في نشأته في ديوانه الأول “صياد وجنية” بالعامية المصرية الذي صدر في عام 1966. وهجر الفصحى نهائياً وانكب على الكتابة بلغة الناس ومفردات الحياة اليومية يصقلها ويتفنن في تطويعها وتحويلها إلى لآلئ التعبير.  فأصبح صوتاً مؤثراً في الناس وفي الحركة الشعرية ورمزاً من رموز الشعر الشعبي في العالم العربي. وبعد ديوانه “صياد وجِنّية”، نشر “الأعمال الشعرية الكاملة” و”مختارات سيد حجاب”.

“ياطبق بَـنّور/ في السما بيدور/ فوت مرة وزور/ قلبي المكسور”.

“عينيك داري وحنان أهلي/ وفين ما بروح بتندهلي/ تزهزهلي الحياة فيها/ وتتفسَّر خوافيها/ نطير واحنا في مطارحنا!”

سيد حجاب هو واحد من أبناء الجيل الذي ينتمي إليه الشعراء عبدالرحمن الأبنودي وصلاح جاهين وعبدالرحيم منصور وغيرهم ممن طوروا القصيدة العامية المصرية لتحمل أبعاداً إنسانية وسياسية وفلسفية، وفي الوقت نفسه أبقوا على صلتها الوثيقة بالبسطاء. ورغم هيمنة هذه الأسماء تمكن سيد حجاب من شق طريقه المميز، فابتكر نكهته الخاصة، وحفرَ مكاناً له في وجدان الناس وعلى الساحة الثقافية بفضل فرادة تعبيره، وبِكْرية مفرداته التي نهلها من التراث الشعبي وليس من التراث الشعري، وقدرته على صهر بساطة الإحساس وفطريته بعمق الفكر وتعقيداته.

“دنيا بتلعب بينا الكورة/نجري نلفّ شمال ويمين/ وحَياتنا فيها فَــزّورة/ مين فينا اللي يحلِّها مين؟”

عبّر سيد حجاب عن وجدان الناس وخصوصاً الفقراء “الغلابة” وواقع حياتهم وهمومهم والأحلام والخيبات والتساؤلات. غمس قلمه في أعماق الروح المصرية، وعبر عن توقها إلى الحرية والعدالة، واتسمت أشعاره ببساطة التعبير وخلاصة الفكر.

“نِفسي أنا أصرخ بحِسّ عالي/على شمسنا وأقول لها تعالي/ خدي همّنا/ وخدي يأسنا/ ودوّبي الليالي/ وهاتيلنا بكرا أحنّ من أمسِنا.”

آمن بالشعر كقوة مقاومة وتغيير. عاصر التحولات السياسية والوطنية الكبرى والقاسية في بلاده والوطن العربي، من صعود عبد الناصر والهزيمة ونكسة 1967، إلى عهود القمع والاستبداد، وصولاً إلى اندلاع الحراك الشعبي الذي أسقط الرئيس حسني مبارك في كانون الثاني/يناير 2011. كما عرف طعم الاعتقال في عهد عبد الناصر. لم تكن قصائده تمارين صياغة جمالية مرفهة ولا زخرفات لغوية، بل حمّلها رؤيته الوطنية والإنسانية ووقَّعها بضميره وضمير الشعب. كتب الأغنية السياسية التي تصلح لأي زمن لأنه رفعها إلى المطلق الوطني والإنساني.

“الدنيا قدامي عتمة/ وأنا ماشي عارف طريقي/ والعتمة ع القلب كاتمة/ لكن طريقي صديقي/ والله يا دنيا يا عُورا/ يا عميا القلب والله/ لأطير كمثل النسورا/ واضوي كما الشمس طالّه.”

اشتهر في كتابة الأغاني ولا سيما أغاني بدايات المسلسلات التي يطلق عليها المصريون “التترات”، ومنها: “ليالي الحلمية”، و”المال والبنون”، و”الحقيقة والسراب”، و”الأصدقاء”، و”الليل وآخرو”، و”أميرة في عابدين”، و”آرابيسك”، وغيرها من الأعمال التي ما زالت تعيش في أذهان الناس. فبهذه الأعمال دخل كل بيت وكل ذاكرة. وهذا ما يطمح إليه الشعراء ولكن قلة منهم تستطيع ذلك. من تتر مسلسل ” الشهد والدموع”:

«تحت نفس الشمس/ فوق نفس التراب/ كلنا بنجري ورا نفس السراب/ كلنا من أم واحدة/ أب واحد دم واحد/ بس حاسين باغتراب/ ليه بنتغرَّب في دنيتنا الغريبة؟/ ليه نقابل كل شيء بشكوك وريبة؟/ واحنا لو عشنا حياتنا بصفو نية/ نجمة الحلم البعيد تِبان قريبة!»

غنى له كل من عفاف راضي وعبد المنعم مدبولي وصفاء أبو السعود، ولـحّن بليغ حمدي أشعاراً له غناها علي الحجار وسميرة سعيد وعفاف راضي، وكتب أغاني لمحمد منير كما كتب أشعار العديد من فوازير رمضان التي كانت تؤديها شريهان. وكانت له تجارب رائعة مع الملحن عمار الشريعي.

من أشهر الأغاني التي كتبها أغنية «حبيبتي من ضفايرها طل القمر» لفيلم «كتيبة الإعدام» ويقول مطلعها: “حبيبتي من ضفايرها طل القمر/ وبين شفافيها ندى الورد بات/ ضحكتها بتهزّ الشجر والحجر/ وحنانها بيصحّي الحياة في النبات/ حبيبتي بتعلِّمني أحب الحياة/ من حبي فيها حياتي شمس وربيع/ والحب في الدنيا دي طوق النجاة”.

حصل سيد حجاب على العديد من الجوائز كان أبرزها جائزة «كفافيس»(*) في عام 2005 عن مجمل أعماله. كما كرَّمه “معرض تونس الدولي للكتاب” في عام 2008 باعتباره أحد رموز الشعر الشعبي في العالم العربي، إضافة إلى حصوله على جائزة الدولة التقديرية عام 2013.

تم اختياره ضمن أعضاء اللجنة التي وضعت دستور عام 2014. وكلفه أعضاء اللجنة منفرداً بكتابة ديباجة الدستور التي تعد جزءًا لا يتجزأ من الدستور نفسه.

من غريب الصدف، أن هذا الشاعر الذي تنبأ بثورة 25 يناير وعاشها مع شبابها، رحل عن الدنيا في 25 يناير، وكأنه يصرخ للشعلة التي اندلعت من الساحات والميادين، لطفاً بنا لا تنطفئي! هو رحل بالجسد، أما قصائده فحياتها مستمرة وهي تقول “إحنا يا دوب ابتدينا”!

من أشعاره:

“ما تسرسبيش يا سنينّنا من بين إيدينا/ولا تنتهيش ده إحنا يا دوب ابتدينا”

****

“حبيبي تعالى لِسّه العمر في ربيعو/ونهر الحب في قلوبنا ينابيعو/ حرام نعشق ونتعاهد/ ونتفرق ونتباعد/ ويبقى بكرا بين أيادينا ونبيعو!”

****

“لَـملم جروحك يا حزين وإمشي/ خطوة كمان وتـخِفّ آلامك/ وإحلم بعين صاحية ولا تنامشي/ غير لما تقطف زهر أحلامك”

*****

(*) سميت جائزة “كفافيس” بهذا الاسم نسبة إلى الشاعر اليوناني Konstantinos Petrou Kavafis )1863-1933). وقد عاش في مدينة الإسكندرية بمصر منذ مولده حتى وفاته. تمنح الجائزة منذ عام 1990 للمبدعين من مصر واليونان مرة كل عامين بهدف تنمية العلاقات الثقافية بين البلدين.

اترك رد