“شيخ العزلة”… جديد د. ربيعة أبي فاضل

أدهم الدّمشقي

 (كاتب  وشاعر ومخرج مسرحي)

مَن أنا حتّى يزورَني أُستاذي طالبًا مِنّي أن أُقدّمَ كتابَه.

وأنا لم أزل في بِكرِ شكِّي وجنوني، لَم يمسحني ميرون شِعره، ولم يُعمّدني فيضُ تأملاتِه، أو تغمرني ألحانُ سكينته… فأُعتَق.

وحينَ يلوحُ وجهُهُ في بالي يردّني طالبًا إلى مقاعدِ الجامعة التي تُدَجِّنُ الشِّعرَ والشعراء..

فأسألني كيفَ استطاع ربيعة، في ظلِّ رتابةِ التّعليم، أن يُحلّقَ حُرًّا في فضائها المغلق، بصحبَةِ قِلَّةٍ قليلة من زملائه الذين تقاعدوا أو أوشكوا عليه..

وكيفَ استطاع أن يتفرَّدَ، صوتًا ولغةً وحضورًا، وسْطَ رعيلٍ حداثويّ ثقَّف فِكْرَهُ فَسَقَفَ شِعرَهُ ولم ينفذ منه إلا بعض القصائد البعلية، خارج السّور الجامعي والأكاديمي.

وَثُمَّ..

في زمنٍ تتكالبُ فيه المصالح والسّياسات ، وتنبحُ الأصوات من كلّ عتمة، وتتفاصح، ما فائدة قصيدة صوفيّة بعد، وأربابها ذُبِحوا أو صُلبوا؟ وشاعرُنا يعود وحدَه ليرتقي الشجرة؟

وهذه القامةُ العالية ومهابة الصّوتِ صوتِكَ، كيفَ تحلّقان في فضاء الشعر المعاصر الحديث وِسعَ الحضور، والحبور، وكمون السِّر، وانكشافاتِه؟ أو كيفَ تَخفُقُ أجنِحَةُ التجربة عندكَ ولا تُوقفُ ثقافتُك عفويَّةَ التعبيرِ، وحلاوتَهُ وروحيّة المعنى ورقيَّهُ؟ أوليسَ عشقُكَ للحقيقةِ يكمنُ وراء كلّ هذه التجلّيات؟! وجَعلكَ الخلاص تخطّيًا للفرديّة، ومسؤوليَّةً إنسانيّة تعمل على حضور الله في المجتمع؟

إنها صوفيّة لا ترمي لخلاص الذّات فقط، إنما خلاص الجماعة. ولا تنكفِئ على علاقة عموديّة أُحاديّة بين الأنا الفرديّة والذّات الكونيّة، أو تتّخذ أهميّتها وحسب، من ارتقائيّتها الرّوحية، بل أيضًا، من حرارتها الانسانيّة.. تمثُّلًا  بالصليب، عموديٌّ في لقاء الانسان بالله، أُفقيٌّ في لقاء الانسان بأخيه.

وبعد…

حين أبحرتُ في “ألحان السَّكينة” أُحاكيه لونًا ورسومًا، شككتُ في سرّي كيف لهُ كلّ هذا الإيمان؟

وحين أَوغلتُ في “نشيد مشرقيّ”، تراءى لي شاعرنا للمرّة الأُولى، معاتبًا ، فجَدّفتُ سائلا: هل عاد من ألحانه خائبًا بعدما عرفَ أنّ الله أصمّ!

ثم اختفى شاعرنا، اختفى ليعودَ شيخ العزلة، وخيطُ سبحته الطّويل يزداد خرزة مع كلّ تلاوة، وصلاة. قصائد، في أزمنة القحط الرّوحي، والفراغ الفنّي والفكري!

قصائد لم أَستلم معظمها باليد، لأنّ شيخها كان يخشى مرَّات، طَرْق باب عزلتي وخلوتي، فيعلّق القصيدة على بابي، ويرحل، وهو صاحبُ القول: “يقفُ المجدُ ببابي.. سائلا هل يدخلُ .. حائرًا هل يرحلُ..” وكثيرًا ما رحل، ورحّلني في نصوصه، بين الأمل، والخيبة، والشكّ، واليقين.

في إحدى قصائده، وقد رأيتها معلّقة على بابي ، خطّ في أسفلها “انتهى”، معلنًا لي أنَّها قصيدته الأَخيرة.

خفتُ كثيرًا ثُم همستُ: لا تُصدّق شاعرًا!

لم أُصدِّق شاعرًا ولا هو صدَّق خيبتهُ، حينَذاك، ثمّ عاد في إحدى القصائد الحميمة، فاتحًا لي جرحهُ، قال:”يا أدهم دير بالك ع حالك!”

فتحَ لي ربيعة جرحَهُ، فدززتُ فيه إصبعي لأُبارك الجرحَ مؤمنًا أنّ شيخ العزلة يُعتق..

أُستاذي ربيعة حلِّق في صلاتِك.. لم يكن مرورك بي عاديًّا، لأنَّني، منذُ طَرْقِكَ بابي.. كلّما رفعتُ نحو الأعلى صلاتي وشَكِّي، أُناديك:

ليسَ نجمًا هذا الْمُضاء

كان طفلاً ثقبَ السّماءَ

ليرى اللّه!

*****

(*) مقدمة كتاب “شيخ العزلة” للدكتور ربيعة أبي فاضل، الذي صدر اليوم عن “دار نلسن”- 2016.

 

 

اترك رد