أنت تُصغي وتقرأ؟ كم أنت تَخيب!

إيلي مارون خليل

(أديب وروائي وشاعر- لبنان)

تكون هادئًا، حالمًا، مطمئنًّا، ذات مساءٍ، صيفيٍّ أو خريفيٍّ أو شتائيٍّ أو ربيعيٍّ، فلا فارق؛ فيجيئك زميلٌ، من الّذين تُحبُّ، أو رفيقٌ أو صديقٌ أو نَسيبٌ، فلا فارق؛ ويطلبُ أن تستمعا إلى الأخبار، معًا، على محطّةٍ معروفةٍ، أو محطّةٍ أو محطّةٍ أو محطّةٍ، فلا فارق. ويحدثُ أن تفعل، ولو من غير اقتناع. تريد “ترتاح” من إلحاحه. فمَن يتمنّى عليك هذا، “يَمون”! وأنتما في جلسة صفاء.

وتُطِلُّ من على الشّاشةِ ابتسامةٌ. تبدو لك “مُبَوْتَكَسَةً”، مُصطَنَعةً، مُفَبرَكة. فأنت لستَ مُتَّخَذًا، سلفًا، بما سوف ترى أو تسمع. لا تَخضعُ، أنت، ولا تقبل، ولا ترتضي، ولا تَسمحُ في أن يُسيطرَ عليك أحدٌ، أو رأيٌ، أو ابتسامةٌ، أو إغراء. أنت لا يُمكنُ أن تكونَ إلاّ مُفَكِّرًا، عقلانيًّا، موضوعيًّا، حياديًّا، من دون نَأيٍ بالنّفس! فأنت صاحبُ رأيٍ. رأيُك حُرٌّ، جبينُك شامخ، كرامتُك موفورة، لذلك تَتعَبُ وتُتعِب.

وبعد أن “يسمعَ” جليسُك الابتسامةَ كلَّها، و”يشاهدَ”، من الخبر، نصفَه، أو أقلَّ قليلا، يلتفتُ إليك، مَزهُوًّا، مُعجَبًا، مُفاخِرًا، يفاجئُك:   – كيف؟ – ماذا؟ يَعْجَبُ، رافِعًا حاجبَيه، حائرًا، يسأل: – كيف ماذا؟ لا تلتفت إليه، أنت، تبتسم ساخرًا، لامباليًا، غيرَ مُنفعِلٍ، تكرِّرُ، صادقًا:   – عمّاذا تسأل كيف؟ ألابتسامةُ أمِ الخبر!؟ يَنْتَعُ رأسَه، يلتفتُ إليك، تسمعه: – ألوجه والخبر، يا صبيّ، اَلوجه والخبر! وتسألُه، من دون اهتمام: – هلِ انتهتِ “الابتسامةُ” من قراءة الخبر؟ يُصْلِح صاحبُك جلستَه، يُحَدّقُ غيرَ مُصَدِّقٍ، يُطلِقُ سؤالاً يُريدُه ذكيًّا: – أَلَم ترَ؟ ألَم تسمعْ!؟ أَسْكَتُّهُ، بحركةٍ من يُمناي، والتفاتةٍ بائخةٍ من عينيّ شِبْهِ المُغْمَضَتَين، قلتُ:

  • بل لأنّي رأيتُ وسمعتُ!
  • وماذا رأيتَ، وماذا سمعتَ!؟
  • ما لا تراهُ، أنت! ولا تسمعُه!
  • لم أفهم! كيف يكون ذلك، ونحن معًا، نرى المحطّة عينَها، ونسمع؟
  • أرى، أنا، ما لا تريد أن تراه أنت. أسمع ما لا تريدُ أن تسمع.
  • كيف يحدث هذا؟
  • يحدث… “ألمفتون” لا يُبصِرُ إلاّ ما يريد. لا يسمع إلاّ ما يتمنّى.
  • كيف ذلك؟
  • “ألمفتون” ينأى بنفسه عن الواقع. يخترع، له، واقعًا يحلُم به. ويُصَدِّق!
  • هل أنا “مفتون”!؟
  • ألمُشكلة، معك، أنّكَ في غاية الافتتان، ولستَ “منتبِهًا”!
  • كيف يكون ذلك!؟ أنا أركّز!
  • تظنّ أنّك تركّز. أنت تتفرّج.

يعجبُ الرّجلُ! كأنّي مُفْتَرٍ لئيم:

  • أنا!؟

عجبتُ لعجبِه. بل لم أعجبْ. أنا صريح! كنت أتوقّع ردودَ فعلِه. أجبْتُه، وبُرودةُ أعصابي

واضحةٌ، شديدةُ الوضوح؛ فقد أردتُ السُّخْرَ وإثارةَ أعصابِه، في الوقتِ نفسِه:

  • “ألمفتون” لا ينتبه! “يرى” سَلَفًا! “يسمعُ” سَلَفًا!
  • تريدُني مفتتَنًا!
  • لا أريدُك مفتتَنًا، لا! لَأنت كذلك!

هَمهَمَ غيرَ مُقتنِعٍ. حرّك ما يُشبِهُ الرّأسَ فيه، يمينًا ويَسارًا، قالِبًا عينَيه وشفتَيه، محرِّكًا يدَيه،

مُبَلْبَلا. قال، ونفْسُه مُظلِمة، ونفَسُه مُختلِج:

  • “ألمفتَتَنُ يرى سلَفًا، قلتَ، ويسمعُ سَلَفًا”! ماذا تَعني؟
  • ما يعنيه الكلام.
  • هذه ميزة حلوة، أن أرى سلَفًا، وأسمع! ما يعني أنّي أتوقّع، ويصدق تَوَقُّعي! هذه نعمةٌ وليست

نقيصة!

تصاعد من صدري نفَسٌ عميق! قُلتُني في وادٍ وجليسي في آخر. مع ذلك جازفتُ، متابِعًا حديثَنا(لم أقلْ: حوارَنا):

  • ميزة أن يصدقَ تَوَقُّعُك حقًّا، لا أن تظنَّ ذلك! فها نحن، وقبل أن نفتح على محطّتِك، كنت

تقولُ لي إنّ المُذيعةَ (…) هي أجملُ المُذيعات! وإنّها أفضلُ مقدِّمة أخبار… وإنّ هذي المحطّة هي الأصدقُ أخبارًا، والأشمل تغطيةً، والأكثر موضوعيّة، والأبعد نظرًا… ومذ أطلّت المُذيعة، وفي منتصف الخبر الأوّل، فاجأتَني بسؤالك: كيف؟ وكنت تقصدُ أنّي موافقٌ على ما سبقَ أن قلتَه لي. كيف أكونُ قد وافقتُك، قبل أن أستمع إلى النّشرةِ! لا أستطيع ذلك، أنا. ألم تلاحظِ افتِتانَك، إذًا!؟

  • لم تُقنِعْني! ألم تكن المُذيعةُ هي الأجمل؟ ألم يكنِ الخبر الأصدق؟ ألم تكنِ النّشرة الأشمل

تغطيةً؟ الأكثر موضوعيّةً؟ الأبعد نظرًا؟ ما بك!؟

إفترّت شفتاي عنِ ابتسامةٍ هازئة، وعيناي عن دهشةٍ حائرة. قلتُ:

  • ما بي شيء! ولكن… ألم تنتبه؟ وجهُ مُذيعتِك “مُبَوتَكَس”، نُطْقُها غيرُ سليم. مَخارج حروفِها

مُضحِكة. ألَم تلحظْ، بعدُ، أنّ “نشرتَك” ما انتهت!؟ فكيف يكون ما قلتَ، ما به تؤمن!؟

خاب زميليي، رفيقي، صديقي، نسيبي، جليسي… قام منصرِفًا، غيرَ مُوَدّعٍ بكلمة، ولا بتلويحة يدِ، ولا بنظرةِ إلى اللّقاء… ولم يلتفت إلى وراء.

نموذج من نماذج!

كم كانت خَيبتي عميقة!

2- 12- 2012

اترك رد