د. حورية الخمليشي
(أديبة وباحثة- المغرب)
سعيد بنكراد هو أحد رواد الدرس السميائي في الوطن العربي. وصِفة السميائي هي الصفة التي اقترن بها اسمه واتّسم بها في الأوساط الثقافية والأكاديمية. ولو أن سعيد بنكراد ينتمي إلى عوالم عديدة في استنطاق النصوص. فقد ساهم مشروعه النقدي السميائي في فتح آفاق جديدة في الجامعة المغربية وفي كل الوطن العربي لِمَا اتّسم به من عمق النّظر وشساعة التأويل.
خبَرَ سعيد بنكراد أغوار السميائيات وأسئلتها ومجالاتها وآفاقها تنظيراً وممارسة وخاصّة السميائيات السّردية. فكان له الفضل الكبير في تقريب الدرس السميائي من حقول معرفية متعددة كالترجمة والنقد الأدبي. وعمل على بلورة الاتساع الدّلالي للسميائيات. فعُرفت أبحاثه بالانفتاح في رؤيتها النقدية وفي آلياتها المنهجية. وفتحت مسارات جديدة للاجتهاد والبحث العلمي لِما عُرف عنه من براعة في تحليل الخطاب واقتحام عالم الصورة كوجه من أوجه الحياة المعاصرة، بما فيها الصورة السّردية، والصورة الإشهارية، وصور أخرى من المعيش اليومي. وهو ينطلق في الصورة من الأشكال الأكثر إغراقاً في التجريد.
وكانت منطلقات سعيد بنكراد المعرفية الأولى هي مدرسة باريس التي سرعان ما ابتعد عنها لينفتح على آفاق جديدة خاصة ما ينتمي ويُصنّف ضمن السميائيات التأويلية. تلقّى العِلم على يد أكبر مفكّري الدّرس السميائي كجيرار جونيت G. Genette وكريماص Greimas وكورتيس Courtes وكريستيفا Kristeva وبريموند Bremond … وقد نشر أولى ترجماته منذ أكثر من عشرين سنة، فلقيت ترحيباً كبيراً لدى القرّاء في المغرب والمشرق العربي. وهو المدير المسؤول لمجلة علامات، المجلة المتخصصة في الدراسات السميائية والأكثر انتشاراً في العالم العربي والتي صدر عددها الأول عام 1994. وقد عُرف سعيد بنكراد بغزارة إنتاجاته، فلهُ ما يقرب من ثلاثين مؤلّفاً بالإضافة إلى العديد من الدّراسات والمقالات التي تحظى بأهمية فكرية وثقافية كبيرة لِما تتميّز به من رصانة علمية وتميّز وفرادة وإبداع. فعملت بذلك على توسيع وترسيخ البحث السميائي في كل جامعات ومعاهد العالم العربي. ويمكن الاطلاع على أعماله في الموقع التالي : http://www.saidbengrad.net .
متعة الحوار مع سعيد بنكراد رحلة مع المعنى وفي المعنى وأسرار التأويل، تجعلك تقتحم بعضاً من عوالمه في رحابة الكتابة وتتعرّف على بعض مشاريعه الثقافية وآفاقه المستقبلية في الكتابة والتّأليف. وهو غالباً ما يفاجئ قُرّاءه بنصوص ومؤلّفات مُشبَعة بقوّة التّحليل السميائي والقدرة على الكشف عن الدّلالات والمعاني، وتفكيك شفرات اللغة التي هي عنده نوعٌ من البحث في سيرورة الكون.
“قول في التسامح”
س- الأستاذ سعيد بنكراد، صدر لك مؤخراً ترجمة كتاب “قول في التسامح” لفولتير، وهو من فلاسفة التنوير المدافعين عن الحرية وخاصة حرية العقيدة. وقد لقي الكتاب رواجاً كبيراً في أوساط المثقفين. فما الذي يعنيه مفهوم التسامح؟ وما الفرق بينه وبين مفهوم “الحق في الاختلاف”؟
ج- من حيث التداول العام لا يميز الناس كثيرا بين المفهومين، فمفهوم التسامح يدل هو أيضا على الاعتراف للآخر بحقه في أن يعتقد في ما يشاء، لا في الدين فحسب، بل في كل ما له علاقة مباشرة مع تصريف تفاصيل حياته في المعيش اليومي. ولكنه عادة ما يُستعمل في السياق الإسلامي للحديث عن الآخر، اليهودي أو المسيحي، ( حق هذين الدينين فقط في نصيب من التسامح، فهما من أهل الكتاب، والإسلام امتداد لهما)، فمن حق المنتمي إلى هذين الدينين أن يمارس شعائر تخصه وتخص دينه، ولكنه لا يصدق على المسلم، ذلك أن المسلم ليس معنيا بقيم التسامح ضمن فضائه الاجتماعي/الثقافي الخاص، فهو مسلم بضرورة الولادة والانتماء التاريخي، ولا دخل للاقتناع والاختيار الفردي الحر في الإيمان. ذلك أن التسامح في عُرف علماء الإسلام “المتسامحين” لا يجب أن يطبع العلاقة بين أبناء الدين الإسلامي فيما بينهم، فالمغربي مسلم “رغم أنفه”، اقتنع أو لم يقتنع بهذا الدين، فيكفي أن يكون الأب مسلما لكي يكون الابن على مِلَّته، مع ما يترتب عن ذلك من نهي عن المنكر وأمر بالمعروف ودعوة إلى سبيل الله (وما يُقال عن حكم الردة صريح في هذا المجال ، عند الغالبية من الفقهاء). وهذا هو مصدر التمييز بين التسامح وبين “الحق في الاختلاف”. الأول ليس معنيا بحرية المعتقد في مفهومه العام، فهو يشير إلى غلبة وإلى قدرة الغالب على العفو دون أن يقوده تسامحه إلى الانسحاب من الفضاء العمومي. أما الثاني فيؤكد حرية المعتقد التي يجب أن يمارسها الناس في بيوت للعبادة خارج فضاء عام يقتسمه الناس جميعا في انفصال عن الانتماء العقدي. والحاصل أن المواطنين، في التسامح “مؤمنون”، أي “جماعة” لا قيمة للفرد داخلها إلا من حيث امتثاله لقناعاتها، أما في الاختلاف فيتحددون باعتبارهم أفرادا في المقام الأول، لا سلطة للجماعة عليهم.
س- نعيش في زمننا الراهن مرحلة تاريخية صعبة بين كل ما هو ديني وفكري وسياسي. ما رأيك بالمشهد الثقافي العربي اليوم؟ وما دور المثقّف في ظل هذه الأوضاع؟
ج- الأمر لم يبدأ من اليوم، أو مما أحدثته “القلاقل” التي عرفها العالم العربي الإسلامي، إنه يعود في واقع الأمر إلى فترة الثمانينيات حين بدأ العالم الاشتراكي في التصدع لكي ينهار بالكامل في 1989 عندما سقط جدار برلين معلنا عن انتهاء الحرب الباردة، واختفاء دول المنظومة الاشتراكية. حينها شعر الكثير من المفكرين والمثقفين العرب ( وغير العرب) أنهم أصبحوا في عراء، وأن الكثير من “المحكيات” التي آمنوا بها سيطويها النسيان كما طوى الكثير من المحكيات قبلها من قبيل القومية العربية والأممية الاشتراكية والعودة بالإنسان إلى حريته الأولى. وهي الوقائع التي ستقود إلى نوع من “الضياع الثقافي” لكثير من الأصوات التي قدمت نفسها للتاريخ ولشعوبها باعتبارها هي المنقذ من الضلال، الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. لم يبق للشعوب حينها سوى الدين باعتباره الثابت في حياتها، وستقدم الحركات السياسية الدينية شعارها الذائع الصيت ” الإسلام هو الحل”. وقد ترتب عن هذا التحول التاريخي الكبير نوعا من التعتيم الثقافي حيث سقطت الكثير من التصنيفات القديمة كالتقدمي والرجعي والماضوي لتسود حالة من اليقينية والمطلق في الأحكام والانكفاء على الذات في ما يشبه الاحتماء بأجوبة التراث فهي وحدها مستودع الحقيقة وفيها تثوي النماذج السلوكية الجاهزة التي يجب أن يهتدي بها الناس، وفي الوقت ذاته أفرزت هذه التحولات موجة من الانتهازية الفكرية المعممة التي ستغطي على كل الأصوات التي مازالت تقاوم هذا المد وتحاول إيقاف هذا النزيف.
قد تكون هناك إبدالات جديدة، منها على الخصوص ما يعود إلى فكرة حقوق الإنسان التي سيعاد تعريفها ضمن القانون الإنساني الذي يسمو على القوانين المحلية. وربما ستكون هذه الفكرة بالذات هي التي يجب أن يتأسس عليها فعل ثقافي جديد يتجاوز الأحكام السياسية لكي يتحول إلى رأي عام يمارس سلطته خارج سلطة الأحزاب والأنظمة.
السرد الديني
س- في دراستك عن السرد الديني والتجربة الوجودية، وبعيداً عن الأحكام الفقهية المتداولة عُدتَ بالنص الديني القصصي إلى سياقات جديدة من خلال ما تحمله الصيغ الاستعارية في النص من قضايا تأويلية شديدة التنوع والاختلاف. فلماذا اخترت النص الديني القصصي دون غيره من أنماط النصوص؟
ج- قد يكون سبب ذلك هو اهتمامي الكبير بالسرد العربي في كل تجلياته، وهو سبب كاف لكي يدفعني إلى مساءلة كل السرود التي أنتجتها الثقافة العربية وعلى رأسها القصص الديني. وقد يكون السبب أيضا هو ندرة الدراسات التي تعاطت مع هذا النوع من السرد. فقد ظلت القصص المنتمية إلى هذا النوع من السرد حبيسة التأويلات الفقهية التي نظرت إليها باعتبارها جزءا من التاريخ الفعلي للأمة، أمتنا والأمم الأخرى، فهي من هذه الزاوية حاملة لوعظ أو عبرة من جهة، وهي لا تملك في وجودها سوى وجهها المشخص، أي وقائع فعلية ممتدة في زمنية كرونولوجية صريحة. والحال أن الأمر في تصوري أكبر وأعمق من ذلك بكثير. فالقصة ليست تاريخا ولا يمكن أن تكون وصفا لحدث وقع بالفعل، بل هي بناء رمزي يختفي وراء المشخص، أي ما يسميه ريكور “المعرفة المزيفة” التي يلجأ إليها المؤول من أجل التأمل في حالات إنسانية تستوطن المفاهيم.
وهما يعني أن الإمساك ببعد الإيحاء فيها وحده يمكن أن يُعيد إلى هذه الوقائع جزءا من ذاكرة لم تستوعبها حالات التمثيل المباشر، أو تطورت على هامشها في شكل أحكام غامضة، أو احتفاء بانفعالات غطى على مصادرها التداعي الرمزي. إن النصوص الدينية عادة ما تحتفي بالمشخص، وهي بذلك تفضل ما تحيل عليه رمزا ما تقوله الكلمات فيها صراحة (حكايات الخضر مع موسى).
وهذا ما حاولت القيام به في قصة إبراهيم وقبلها قصة الخلق، وما سأقوم به في محاولات أخرى هي موضوع اشتغالي حاليا. وهذا ما يميز الدراسات السميائية للقصص الديني في الغرب (أوروبا). فقد تجاوزوا منذ فترة طويلة حدود المرئي في الحكايات ليسائلوا وجهها الرمزي (رمزية الشر، والخطيئة عند ريكور)، وهو ما قام به فولتير نفسه منذ ثلاثة قرون حين رفع عن السيد المسيح تهمة الاضطهاد بإعادة قراءة ” حكاياته” من زاوية رمزية.
س- كيف يقود التجريد في النص الديني القصصي إلى المعرفة المفهومية التي ترونها أساس كل فهم عقلي؟ هل يمكن أن نقول بأن “التجريد” وسيلتنا للانفتاح على التجارب الإنسانية الكونية؟ وكيف يمكن التعامل مع هذه النصوص باعتبارها، كما ذكرت، “طبقات” دلالية متراكبة أو سلسلة من المقاصد الضمنية؟
ج- سبق أن صرح أحد الرحالة الروس، بعد أن عاد من رحلة قادته إلى الكثير من المناطق في العالم، بأن المضامين كانت واحدة عند كل الشعوب ووحدها الأشكال كانت تختلف من منطقة إلى أخرى. وهي صيغة أخرى للقول إن الشعوب لا تتميز عن بعضها البعض في الجوهر القيمي إلا في النادر، بل من خلال الأشكال التي تُعد غطاء لهذه المضامين. وهذا معناه أن التخلص من طبقات التشخيص عبر سيرورات تجريد متتال هو ما يمكننا من الإمساك بمفاهيم عامة، أي مضامين كونية عادة ما يتوحد من خلالها كل الناس. فقد استعملت الحكاية باعتبارها أداة للإقناع، كما استعملت باعتبارها دالة على محتمل هو وحده يمكننا من الإمساك بصيغة عامة يدرك مضمونها العامة من الناس. وهذا ما يصدق على كل الحكايات بما فيها تلك التي استعملتها الديانات لشرح بعض من تعاليمها وطقوسها، أو استعملتها من أجل استعادة زمنية مقدسة أصلية وحده السرد يمكن أن يقول شيئا عنها.
وهو ما يعني أن السرد باعتباره تمثيلا مشخصا ظاهرة “أصلية” في الوجود الإنساني، أو هو الشكل “المعرفي” الأول الذي استعان به الإنسان من أجل تفسير الظواهر الطبيعية، ومن أجل تبرير القهر الاجتماعي أو رفضه أو التعايش معه. وقد فعل ذلك في الكثير من الحالات ضمن مزج كلي بين “قوى” جبارة تضمن ما يأتي من الطبيعة من كوارث (الطوفان مثلا)، وما يصدر عن السلطة بكل أجهزة الضبط عندها، وبين ما يصدر عن “الآلهة” باعتبارها قوى مرئية في الطبيعة والسلطة على حد سواء. ففي غياب معرفة نظرية صريحة تستند إلى مفاهيم تعمم وتجرد وتبحث في الأسباب والمسببات، يظل السرد هو أداة الكشف عن سر الكون ومحاولة فهم بعض أسراره.
قصة إبراهيم
س- بقراءتك لبعض الوحدات السردية من القصص القرآني نموذج قصة إبراهيم دفعت بالرمزية إلى أفق حدودها وتخلّصت من الوجه المشخّص للقصة. هل هذه الأشياء هي التي جعلتك تكتشف أن قصة إبراهيم التخييلية أوسع وأغنى من كل القراءات والتأويلات السابقة؟
ج- ما دفعني إلى ذلك أولا قناعاتي النظرية، وهي قناعات ترفض أن تخلط بين التاريخ وبين المحكي، فللتاريخ قوانين خاصة ليست هي تلك التي يعتمدها المحكي. فما تقدمه القصص التخييلية في نهاية الأمر هو بالضبط تلك العناصر التي لا تثير اهتمام المؤرخ، أو لا يرى فيها سوى قرائن بسيطة لا موقع لها في تشكل الواقعة التاريخية. وما دفعني إلى ذلك في مستوى ثاني هو محاولة تخليص النص الديني من طابعه التشخيصي ومحاولة إدراجه ضمن سيرورة تأويلية تكشف عن غناه وعمقه.
وهي صيغة أخرى للقول إن المعتقد في القصة الدينية هو الذي يبلور الزمنية و”يوجهها” و”يستعملها” من أجل تلوين سيرورته وفق غايات يتحدد داخلها بدء الكون ومنتهاه. لقد حاولت هذه النصوص صياغة التاريخ استنادا إلى مفاهيم مسبقة من قبيل “الاختيار”(اليهودية) أو “الخطيئة”(المسيحية) أو “الاستخلاف” (الإسلام)، وهي المحددات المركزية التي قامت عليها الكثير من الديانات الأخرى.
فلا نجادل في تاريخ إبراهيم الشخصي، ولا نشكك في نبوته ( فهو أب الأنبياء كما يلقب)، ولكننا لا يمكن أن نتعامل مع اللحظات التي يشير إليها النص القرآني باعتبارها وقائع من التاريخ، إنها في ما هو أبعد من حياة إبراهيم تصوير استعاري لرحلة الإنسان في الأرض بحثا عن الله. أو هي محاولة لتجاوز المرئي والمتحول للإمساك بلحظة أخرى تتجسد في ما لا يرى ولا يتغير. وهي البداية التي ترسمها الآيات حين تربط دفعة وحدة ضمن حالة تأمل لا يمكن أن تكون لحظة زمنية معلومة، بين الفعل “جن” وبين “الليل” و”النور” الذي ينبعث من أعلى، إنها ليست لحظة زمنية عادية لأنها لا تحكي قصة فقط، بل تمسك بالتأمل الذي كان مبعثه الظلام الداخلي بإحالته على الجهل والضلال والكفر الذي يحيط بإبراهيم في العائلة والقبيلة والسلطة ( آزر وقومه ونمرود)، وإمكانية الخروج منه من خلال الإمساك بنور لن يكون نور الكوكب أو القمر أو الشمس، فتلك أنوار ليست أصلية، إنها تهدي إلى النور الذي سينمو داخل الذات المتأملة آتيا مباشرة من عوالم الذات الإلهية. إن حكمة الحياة مودعة في القصص والحكايات لا في المفاهيم.
س- هل تنوي تقديم نماذج أخرى من القصص الديني القرآني في هذا السياق التحليلي الجديد؟
ج- بالـتأكيد، وهو المشروع الذي يشغلني الآن، وكنت قد أنجزت دراسة في هذا المجال هي التي تناولت فيها قصة الخلق، ونشرتها منذ سنوات، كما نشرت مقالات أخرى حول السرد والشرعية من الزاوية ذاتها.
رواية وترجمات
س- إلى جانب تخصصك في السيميائيات السردية أنت عاشق للشعر وتحفظ العديد من الأشعار. وأتذكّر في إحدى الجلسات العلمية تحليلك العميق والمتفرّد لجمالية الصورة في قصيدة محمود درويش “هي في المساء وحيدة”، كيف تنظر اليوم إلى الشعر؟
ج- الشعر سيظل هو الشعر كما كان قديما صياغة لفظية لانفعالات يستهويها العيش في أكثر المناطق غموضا، وهذا ما يفسر كيف أن الشعر قائم أصلا على قدرة الشاعر على الإتيان بعلاقات عادة ما تدفع بالأشياء إلى الخروج عن العلاقات الأصلية بينها. فالشعر الذي يحافظ على نظام اللغة التقريري، أو على نظام الأشياء كما هي ليس شعرا. وذاك ما يستهويني في هذا القول، إنه دائما عودة إلى عيان عيني تتمثل فيه الروح باعتبارها عودة إلى ما يشكل حالة استهواء أصلي يفلت من سلطة المفاهيم ليسكن الباطن الداخلي كما هو، في انفصال عن التقاطبات التي تصنف الانفعالات وتفصل بينها.
س- الأستاذ سعيد بنكراد اخترتَ السيميائيات السردية مجالاً للبحث، ودرستَ العديد من الروايات، ألا تنوي كتابة الرواية؟ وكيف ترى واقع الرواية العربية اليوم؟
ج- بالتأكيد سأفعل ذلك، وقد حاولت من قبل لكنني وجدت نفسي محاصرا بتجربة الأنا داخلي، فصرفت النظر عن ذلك إلى أن تتبلور عندي القدرة على بناء عالم قد يستعين بالتجربة الخاصة، ولكنه لن يكتب تاريخ شخص أعرفه هو أنا.
س- حققت حضورك المتميز في مجال الترجمة في الوطن العربي، فكيف تجد حركة الترجمة في عصر العولمة بعد كل هذه التجربة الواسعة؟ وماذا عن مشروعك المعجمي الجديد؟
ج- الترجمة نشاط معرفي هام وقد كانت أساس نهضات كثيرة عرفتها الإنسانية قديما وحديثا. والثابت في التاريخ ألا أمة استطاعت بإمكانيات ثقافتها ولغتها وحدها أن تحقق نهضة حقيقة. فعل ذلك العرب قديما وعرفت ثقافتهم نتيجة ذلك هزة عنينفة هي التي كانت وراء ميلاد علوم جديدة كما ظهرت المعاجم المتخصصة، وفعله الأوروبيون وفعله اليابانيون وغيرهم من الشعوب. لذلك فأنا دائما أقول إن الترجمة تعطي العربية فرصة أن تتكلم لغات أخرى، أي تمنحها القدرة على استنبات ما أُنجز في لغات أخرى ضمن تربتها هي. ويكفي أن نعود بأنفسنا ثلاثة عقود إلى الوراء لا أكثر لكي ندرك ما قدمه الكثير من الباحثين المغاربة ( وغير المغاربة) إلى اللغة العربية وهم يترجمون مئات المصطلحات والمفاهيم التي أصبحت الآن جزءا من اللغة العربية وجزءا من ثقافتها وطريقتها في التقطيع المفهومي، فقد أعدنا التفكير في تراثنا استنادا إلى هذه المفاهيم بالذات.
أما عن المعجم، فهو عمل شاق، ويستدعي التأني والكثير من الصبر. فأنا لا أرغب في تقديم معجم خاص بمدرسة سميائية بعينها، فهذا أمر سهل ويكفي أن أترجم قاموس كريماص، وأكون بذلك قد قدمت معجما. أنا أريد أن أقدم كل المفاهيم التي لها علاقة بالسميائيات، أي أريد أن أقدم معجما يغطي جميع التيارات التي عرفتها السميائيات، استنادا إلى حاجة العربية إلى هذه المفاهيم، لا نقلا لمفاهيم لن يكون لها أي طائل في اللغة العربية.