خالد غزال
(كاتب وباحث- لبنان)
أصدرت «مؤسسة الدراسات الفلسطينية» المجموعة الأولى من «الوثائق الرئيسية في قضية فلسطين» الموجودة في أرشيف الأمانة العامة للجامعة العربية، وهي تغطي المرحلة الممتدة من 1915 إلى 1946.
يزيد من أهمية صدور الوثائق اقترانها بمحطات أساسية في التاريخَين العربي والفلسطيني، هي: الذكرى المئوية لمحادثات حسين – ماكماهون 1916 – 2016، والذكرى المئوية لمعاهدة سايكس- بيكو عام 1916، وذكرى وعد بلفور 1917 – 2017، وصولاً إلى الذكرى السبعينية لقرار التقسيم الصادر عن هيئة الأمم المتحدة 1947 – 2017. حرر الوثائق المحامي الفلسطيني أمين عقل، الذي لعب دوراً أساسياً في النضال الفلسطيني، خصوصاً عشية الحرب وتهجير الفلسطينيين من أرضهم. وأمين عقل مؤرخ ووزير سابق في حكومة عموم فلسطين، أدى نشاطه إلى اعتقاله من جانب سلطة الانتداب خلال فترة الثورة الكبرى، وقد تولى منصب سكرتير اللجنة القومية ليافا التي تألفت عقب قرار التقسيم، وكان لها دور مهم في صمود الفلسطينيين في أرضهم ومواجهة العصابات الصهيونية، وتنظيم الحياة في مدينة يافا والدفاع عنها. قدم للمجموعة الكاتب والمؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي الذي كانت له مقابلات مع أمين عقل للتدقيق في بعض القضايا المتصلة بتلك المرحلة.
من المسائل المهمة التي يوردها وليد الخالدي تلك المتصلة بقضية الخروج الفلسطيني عام 1948. ادعت الحركة الصهيونية سابقاً، ولا يزال خطابها في المحافل الدولية وفي الغرب عموماً يتركّز على أن الخروج الفلسطيني من أرض فلسطين أتى بقرار عربي أرسلته الدول العربية إلى المسؤولين الفلسطينيين للخروج من أرضهم بحجة تسهيل دخول الجيوش العربية إلى فلسطين وطرد الصهاينة منها. هذه المقولة كانت محط اهتمام الخالدي الذي كان له اتصال بأمين عقل والاستفسار عن هذه الواقعة. يقول أمين عقل رداً على الخالدي «عطفاً… على استفساركم عن صحة الإشاعات القائلة إن الحكومات العربية والهيئة العربية العليا أصدرت أوامرها إلى اللجان القومية في فلسطين أواخر سنة 1947 أو خلال 1948 لإخلاء المدن الفلسطينية من سكانها بقصد عودتهم في ما بعد في أعقاب الجيوش العربية، أجيبكم بصفتي سكرتيراً للجنة القومية في مدينة يافا في ذلك الحين، وهي أكبر المدن العربية في فلسطين، أن هذه الإشاعة كاذبة وباطلة ولا أساس لها من الصحة والعكس هو الصحيح». ويتابع أمين عقل كلامه: «إن الحكومات العربية وافقت على اقتراح الهيئة العربية العليا بناء على طلب اللجنة القومية في يافا، وهو يقضي بمنع سكان فلسطين من مغادرة المدن والقرى فيها إلا لأسباب قاهرة، كالمرض ولدواعي المصلحة العامة، وذلك بإذن خاص من اللجنة القومية في البلد الذي يطلب فيه الساكن السفر خارج البلاد. وبقدر ما يتعلق الأمر بأهالي يافا كانت القنصليات العربية في فلسطين ترفض إعطاء سمة السفر إلى أي مواطن عربي ما لم يقدم لها شهادة من اللجنة القومية تبرّر خروجه».
ثلاث حقبات
تنقسم الوثائق إلى ثلاث حقبات: الأولى تتناول خلفية الانتداب، وهي مرحلة تمتد من 1915 – 1919، والثانية تتصل بمسار الانتداب في مرحلة تطاول الأعوام 1920 – 1939، فيما تتعلق الثالثة بنهايات الانتداب وهي المرحلة ما بين 1939 – 1946.
في الحقبة الأولى، تدور الوثائق حول موضوع المراسلات التي حصلت بين الشريف حسين شريف مكة والسير هنري ماكماهون المندوب البريطاني السامي في القاهرة. تتضمن الرسائل الوعود الصادرة عن بريطانيا وفرنسا الى العرب خلال الحرب العالمية الأولى. كما تحوي الوثائق نص معاهدة سايكس- بيكو ونص وعد بلفور، وهي كلها مناقضة ومخالفة لتفسير العرب لفحوى مراسلات حسين- ماكماهون والوعود البريطانية الفرنسية. في النقاشات اللاحقة بين العرب والبريطانيين، بدا الخداع البريطاني والفرنسي في تفسير المراسلات، إذ كانت بريطانيا تدّعي أن استثناءات طاولت الوعود، منها ما يتعلق بوعد بلفور، ومنها ما يطاول بعض المناطق، حيث أتى الجواب البريطاني: «إن ولايتي مرسين واسكندرونة وأجزاء من بلاد الشام الواقعة في الجهة الغربية لولايات دمشق الشام وحمص وحماه وحلب لا يمكن أن يقال عنها أنها عربية محضة. وعليه يجب أن تستثنى من الحدود المطلوبة».
في الحقبة الثانية المتعلقة بمسار الانتداب، تتمحور الوثائق حول السياسة البريطانية التنفيذية لوعد بلفور بصفتها الدولة المنتدبة على فلسطين من جانب «مجلس الحلفاء» في مؤتمر سان ريمو بتاريخ 20 نيسان (أبريل) 1920. وعلى رغم أن مجلس عصبة الأمم لم يقر صك الانتداب ليكون الإطار التشريعي لتنفيذ وعد بلفور إلا بتاريخ الأول من تموز (يوليو) 1922، فقد باشرت بريطانيا تنفيذ الوعد في العام 1920، عندما عينت أول مندوب سامي في فلسطين هربرت صموئيل الذي يقول عنه أمين عقل أنه «أحد أقطاب الحركة الصهيونية وأول من عمل لها وأيدها من الرسميين البريطانيين خلال الحرب العالمية الأولى وبعدها».
تعليقاً على وثيقة صك الانتداب، وجه الوفد الفلسطيني إلى لندن عام 1922 رسالة تقول أنه «ما دام وضع فلسطين على ما هو عليه اليوم من استئثار الحكومة البريطانية بالسلطة بالاعتماد على قواها المحتلة، واستعمالها تلك السلطة في إرغام أهل البلاد ضد رغباتهم على قبول هجرة واسعة النطاق تتألف من اليهود والغرباء… فلن يقبل أهل فلسطين بأقل من دستور يمكنهم من الإشراف على شؤونهم الخاصة إشرافاً تاماً». ومن المسائل الواردة في هذه المجموعة شروحات بريطانيا على لسان تشرشل لمدلول «الوطن القومي اليهودي» في فلسطين حيث يقول: «لا يعني فرض الجنسية اليهودية على أهالي فلسطين، بل زيادة في رقي الطائفة اليهودية بمساعدة اليهود الموجودين في أنحاء العالم، حتى تصبح مركزاً يكون فيه للشعب اليهودي برمته اهتمام وفخر من الوجهتين الدينية والقومية».
تتطرق الحقبة الثالثة إلى نهاية الانتداب، فتشير الوثائق إلى مرحلة الطلاق بين القيادة الصهيونية بقيادة ديفيد بن غوريون وبين بريطانيا، وفي الوقت نفسه تشير إلى تنامي اعتماد القيادة الصهيونية على نفوذ المؤسسة اليهودية الأميركية للضغط على واشنطن، كي تضغط بدورها على لندن للعدول عن سياسة «الكتاب الأبيض» الصادر عام 1939. في هذه المرحلة، نجحت القيادة الصهيونية في الخروج من العباءة البريطانية والالتحاق بالسياسة الأميركية التي تهدف في جزء منها إلى طرد بريطانيا من فلسطين. استفادت القيادة الصهيونية من تولي حزب العمال البريطاني الحكم وهو المؤيد للحركة الصهيونية بحماسة، يؤكد ذلك ما ورد في المؤتمر الحزبي العمالي عام 1944: «فليشجع العرب على الخروج (من فلسطين) بينما اليهود يدخلون. وليجزل لهم في التعويض عن أراضيهم وينظم استيطانهم بعناية في أماكن أخرى ويموّل بكرم. ان للعرب مناطق واسعة تخصهم وحدهم… وبالحقيقة يجب علينا أن نعيد دراسة إمكان توسيع حدود فلسطين الحالية بالاتفاق مع مصر وسورية وشرق الأردن».
الأميركيون في المنطقة
تعطي الوثائق حيزاً واسعاً للسياسة الأميركية في المنطقة بعد أن باتت ذات مواقع أساسية في أعقاب الحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء وازدياد النفوذ الأميركي. وتشير الوثائق إلى مناقشات أميركية حاول بعضها التوفيق بين المصالح الأميركية في العالم العربي، خصوصاً بعد اكتشاف النفط، وبين الالتزام بالمصالح اليهودية الساعية بقوة الى حسم الأمور على الأرض، سواء بانسحاب بريطانيا بما يتيح للحركة الصهيونية تنفيذ مخططاتها في الاقتلاع والتهجير وبناء المستوطنات واستقدام المهاجرين، أو في التمهيد لإعلان دولة إسرائيل. الملاحظ في هذه المرحلة تركيز المؤتمرات الدولية على بند تقسيم فلسطين بما يتيح لليهود إنشاء كيان محدد، ودارت في هذا المجال مناقشات واسعة مهدت لقرار الأمم المتحدة بالتقسيم عام 1947.
تشكل الوثائق مادة غنية لاستعادة تاريخ النضال الفلسطيني خلال النصف الأول من القرن العشرين، خصوصاً أن هذا النضال تم طمسه والتعتيم عليه من العرب أنفسهم، بل حاول بعض الأنظمة والأحزاب القومية إلصاق تهمة التخاذل بالشعب الفلسطيني وتحميله مسؤولية الهزيمة العربية عام 1948، وهو خطاب ما زال يتردّد بشكل عنصري ضد القضية الفلسطينية، وتبرئة للأنظمة من مسؤوليتها عن المآل الذي آلت إليه قضية فلسطين.