ارتباط الوفاق بالإعلام

 

 جورج شامي

(أديب وروائي وقاص- لبنان)                                            

لست بشيراً… ولن أكون نذيراً

وكشاهد نضجت عناصر شهادته بالصراع، لا كديان مسترخ ببلادة وراء منصة الحكم، اسمحوا لي أن أتحدث إليكم في هذه العشية!

لا أريد أن أظلم أحداً. ولا أريد أن أدين أحداً! ولكن، من حقي كمواطن، مجرد مواطن عادي، أن أتساءل: أين هي جمعياتنا الثقافية؟ وحتى تلك التي وجدت، أي دور لبناني قومي، فاعل وبارز، كان دورها منذ العام 1943، أي مع فجر الاستقلال، لا قبل ولا بعد؟

لقد جاءت كلها على صورة الذين أطلقوها وسعوا إلى تأليفها وتكوينها، فعكسوا أمزجتهم عليها، فإذا بأعمارها لا تتجاوز أعمار الأحلام وإذا بنهاياتها لا تخلو من الإحباط والأسى!

المثقفون جزء من هذا الوطن، وربما كانوا الجزء الأهم، ومن الطبيعي أن يكونوا على صورة هذا الوطن ومثاله، وإلاّ كان عليهم أن يخلقوا وطناً بديلاً على صورتهم ومثالهم. وهذا لم يحصل، ويا للأسف لا في تاريخ لبنان القديم ولا في التاريخ الحديث ولا حتى في التاريخ المعاصر. وبعد هذا، لا يسعنا إلاّ أن نتساءل: كيف لنا أن ننتظر من مثقفي بلد ما زال أبناؤه، وفي طليعتهم مثقفوه، يتقاتلون ويتذابحون، مختلفين على تحديد هويته وصحة انتماءاته!

المثقفون حتى اليوم لم يكتبوا دستور هذا الوطن، وكل المعاناة والآلام والعذابات التي مررنا بها وتجاوزناها، لم تكن هي المظهر الحقيقي المؤدي إلى ملكوت الولاء لوطن اسمه لبنان.

المثقفون كانوا مرهونين للسياسة مسخرين لها، وقودا لنيروناتها، ولم يستطيعوا، ولا مرة أن يرّوضوا السياسة ويدّجنوها لخدمة الثقافة. لذا ظلوا، معظمهم، مطروحين خارج كل لعبة سياسية، ومطروحين خارج الأحزاب ما عدا قلة منهم ملتزمة بعقائد ومبادىء ذات انتماءات غير وطنية.

شكراً لكل الناشطين المثقفين في هذه الديار الساعين إلى الوفاق، انطلاقاً من إرادة هي في وداعة البنفسجة وحجم حبة الخردل التي تنقل جبلاً من مكانه، وشكراً للناشط المغامر الذي ما زال يحمل وجع الأمل على منكبيه وفي برديه وما زال خير الناشطين في دروب الله الوعرة، عنيت الأب مارون عطالله.. رجل الله الشاهد على الحق.

قال الحكيم الروماني: “تزداد شجاعة الإنسان كلما ازداد بعداً  عن ساحة الحرب”.

ولكن الحكيم الروماني، نسي أو تناسى أو فاته أن يقول: “إن معظم البطولات برزت في ساحة الحرب”.

هذه هي تحية التقدير التي أقدّمها إلى كل واحد منكم ، مع الشكر، مستلهماً شجاعتي من شجاعتكم المتميزة بالاعتدال والموضوعية، بعيداً عن التشنج والحدّة والعصبية والتجريح والتباهي بالشجاعة والكرامة والشرف.

بلغتين، لا بلغة واحدة، هما: لغة الأديب المغرّد خارج سربه، ولغة الصحافي المحفور في جراح الأرض.

وبصفتين، لا بصفة واحدة، هما: صفة الإعلامي الجامعي المسترخي وراء منبره، وصفة الصحافي اللاهث وراء متاعبه.

وبولاء واحد، هو الولاء للبنان.

سأحاول هنا أن أطرح أفكاراً فيها أفكاري، وأعرض آراء فيها آرائي، وأبث مناجاة فيها مناجاتي.

قد تكون منتزعة من ذاكرة النسيان، وقد تكون مقتلعة من أزقة مهجورة، أو تكون محمّلة مع أمتعة مسروقة، ومقتنيات منهوبة. وقد تكون مسبيّة مع السبايا، ومهجرة مع المهجرين. ومطرودة مع المطرودين، ومضطهدة مع المضطهدين، أو مسحوقة مع المسحوقين.

***

أيها الأحبة،

“لما كانت الحروب تبدأ في عقول الناس ففي عقولهم ينبغي أن تشيد حصون السلام”.

جا ء ذلك في توطئة دستور منظمة اليونيسكو، وجاء أيضاً: “إن جهل الناس بعضهم بعضاً كان سبباً عاماً خلال تاريخ البشر للريبة والشك بين شعوب العالم… وكان سبباً للحروب”.

من هنا أتساءل: هل بقيت لنا عقول؟ وعلى من ينبغي أن يشيد حصون السلام في هذه العقول؟ ومتى؟ وكيف؟ ومن هنا أيضاً أتساءل: هل يجهل اللبنانيون، حقاً، بعضهم بعضاً؟ هل حقاً قتلتنا الريبة، وقتلنا الشك؟ نحن أبناء الوطن الواحد، والعائلة الواحدة، والمصير الواحد؟

ثلاث وسبعون سنة ـ ما أمرها ـ تجيب، ويا للأسف، أجل!

أما المهمة الصعبة، مهمة تشييد حصون السلام في العقول، فتقع على عاتق الإعلام. ولكن هل الإعلام قادر على أن يلعب، وحده، كل الأدوار؟ لست متأكداً من ذلك، إلاّ أن باستطاعته ربما، أن يكوّن قناعات، واقتناعات هنا في الداخل، وهناك في الخارج، قادرة، وأقول، ربما أيضاً، على تبديل المعطيات وتحويل المأساة إلى فرح حقيقي.

إن تركيبة الشعب اللبناني، وتكوينه، يعطيان النشاط الإعلامي والدعائي، مرتبة عالية جداً، لأن هذا النشاط هو الوسيلة، والأداة الرئيسية التي تمكن لبنان من كسب معركة الوجود، وهي المعركة الأكثر أهمية، لأنها الأولى بالنسبة إلى المرتبات الثلاث التي تعتبر عالمياً الركائز التحتية التي يقوم عليها بناء الأوطان ألا وهي: الوجود ـ الكيان ـ المصير.

ففي بلد يتجمع فيه، من جهة، سبعة عشر مذهباً، منبثقاً من ثلاثة  أديان توحيدية، موزعة على أربعة وعشرين عرقاً، من جهة أخرى تراكم عصور متعاقبة، جعلت اللبناني يتحسس، حسب الأمر الذي يجابهه، يحسّ أحد هذه العصور، أي أن الإنسان اللبناني يشعر حيال الأحداث بالحسّ العائد إلى أحد العصور، مما يدلّ على أنه لا يوجد في لبنان حسّ واحد بل مجموعة من الأحساسيس في ذات الشخص الواحد، تظهر وفق العامل الظرفي.

فانفعالات اللبناني حيال بعض الأمور تعود إلى عصور ما قبل المسيح، وفي أمور أخرى، ترجع إلى العصور الوسطى، وفي أمور غيرها ترجع إلى العصور الحديثة أو الشبه آنية.

إن في كل لبناني تعدد شخصيات، وفي المجموعة اللبنانية مجموعة تعدد شخصيات أخرى، لأن لكل طائفة ولكل فئة  تعدد شخصيات خاصة بها، مما أدى إلى خلق ازدواجيات غريبة في الذات اللبنانية تشكل قاعدة خصبة للأهواء والانفعالات الظرفية، هذا بالإضافة إلى أننا أمام واقع جغرافي لا يقل تنوعاً عن الواقع البشري.

إزاء هذه الصورة يتبين لنا دون شرح وتفصيل أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه الإعلاميون كأن يخلقوا التناغم في ما بين هذه التنوعات ويحولوها من مستوى العصبية إلى مستوى الثروة الوطنية والإنسانية.

لذلك فالإعلاميون وحدهم يتحملون مسؤولية توجيه وجود لبنان.

ولكن هل هم قادرون على القيام بمهمة خلق المواطن وتركيز الأمة بصورة رئيسية؟

لقد ثبت أن المزيج اللبناني هو من النوع المتقلب، وثبت أن مستوى الانفعال عند هذا الشعب واضح المعالم. ويمكننا التنبؤ عن احتمالات الانفعال حيال كل ظرف أو مناسبة.

إن عدم التعرف في العمق إلى هذه الخصائص للطباع التي تعبّر عن الشخصية اللبنانية يؤدي إلى جهل طريقة التخاطب معها ومعالجتها، ويؤدي إلى تحول المشاكل إلى أزمات ومعضلات هي في الواقع أزمات مرضية وحالات تشخيصية.

إن عدم الإدراك يجعلنا في كل ظرف مهددين بأن تتحول مشكلاتنا من المستوى السياسي إلى مستوى مرضي وهذا ما نعانيه اليوم.

وقد عبّر المفكرون، وممثلو النقابات، والفعاليات، والمقاتلون، والمثقفون وحتى الصامتون إنها أزمة من نوع التقصير السياسي، والتقصير في الحكم ـ ألم يشر معظم رؤساء البلاد في خطبهم إلى أخطاء الماضي وعيوبه ـ مما يؤكد أن المستوى الحاكم في لبنان، كان طوال مرحلة الاستقلال في أقصى حدّ من الجهل والتعامي. وإن الطرق التي اعتمدت في الحكم هي التي سارت بالبلاد من سيء إلى أسوأ!

لذلك لا بدّ من التأكيد إن على الإعلاميين أن يقوموا بدورهم الحقيقي، وهو دور وقائي يحول دون تكرار الحوادث والظروف التي تهدد وجود لبنان دورياً، في كل آونة، وهي لا تهدد كيانه فحسب بل تهدد مصيره أيضاً.

ولكي يتحمّل رجال الإعلام، وفي طليعتهم الصحافيون مسؤولياتهم ويدركون الواقع الأساسي الذي يتوقف عليه مصير البلاد، أرى من الضروري تحديد الهدف، ومن ثم تحديد البرامج التي من شأنها أن تحقق هذا الهدف ليتمكن الإعلاميون من تجنيب البلاد متاهات الانزلاق من الخصائص الاجتماعية والمجتمعية إلى الأمراض الجماعية وما تنذر بها من مخاطر وانفجارات.

ويجب أن لا يغيب عن بالنا أننا إذا أردنا فعلاً أن نحقق ما نتغنى به من أن لبنان هو بلد الإشعاع، فيجب أن نضع نصب أعيننا أن قيمة لبنان في المجتمع العالمي تعود إلى تنوع فئاته، وتنوعه الجغرافي، وتعدد ثقافاته، وغيرها من الأمور.

إن لبنان بفعل ذلك يشكّل رأس الحربة في تطور البشرية نحو العالمية، فنحن مختبر العالم ـ وقد أثبتنا ذلك في حالتي السلم والحرب ـ ويجب أن نرشد العالم بفضل اختباراتنا إلى الخطوات التي تعيد لنا وحدتنا أولاً وتحقق وحدة البشرية التي بدونها لا سلام.

إن إعلاماً صحيحاً مكتفياً معافى، كفيل بأن يخلق في داخل البلاد جبهة قوية واعية موحدة الرأي، وكفيل بأن يخلق رأياً عاماً متفهماً، منصفاً عادلاً.

وبما أن الصحافة في لبنان كانت أبرز وسائل الإعلام وأفعلها، وكانت سيطرتها تشمل العالم العربي بأسره من المحيط إلى الخليج.

وبما أن لبنان في العصر الحديث قد عرف بصحافته وذاع صيته في أقطار الدنيا، ودفع صحافيوه، تحت نير الحكم العثماني، وفي عهد الانتداب، وعهد الاستقلال ، على امتداد مائة وخمسة وعشرين سنة ويزيد، الثمن الأغلى في سبيل التحرر والاستقلال ونشر المعرفة.

وبما أن الصحافة لعبت دوراً في حرب لبنان، متفاوتاً في الحجم والتأثير متضارباً في الاستقامة والألتواء.

وبما أن الحرية الصحافية هي معيار كل الحريات، أسمح لنفسي بأن أردد: “إن الصحافة هي آية العصر.. لأنها آية الحرية”، ولكن أين هي هذه الحرية؟

… كتب لينين: “إن حرية الصحافة شعار ترفعه الرأسمالية، فحرية الصحافة في مفهوم الرأسماليين تعنى حرية شراء الصحافة من قبل المتمولين، أو حرية استخدام المال للسيطرة على الرأي العام. إن الحرية الحقيقية للصحافة هي في تحررها بصورة مباشرة من سيطرة المال”.

وكتب كوزوفيتش، وهو أحد كبار المنظرين السوفيات: “إن غاية الإعلام ليست عملية تجارية بل أن تثقف جماهير العمال”.

وكتب موسوليني: “إن الصحافي الإيطالي حرّ فقط في أن يخدم النظام”.

ولعل أدولف هتلر في إنشائه لوزارة الدعاية كان أول من أدرك أهمية الإعلام في توجيه الرأي العام والتأثير على سلوكه وتفكيره بواسطة الدولة ولمصلحة الدولة.

وبين النظرة اللينينية والنظرة الفاشية، كان لا بدّ للنظرة الليبرالية المطلقة من أن تتعدل فتولدت نظرية جديدة دعيت بالمسؤولية الاجتماعية.

ويقول أصحاب هذه  النظرية: “إن حرية الصحافة ليست فردية بل حرية يمنحها المجتمع للصحافيين ليساعدهم على القيام بدور اجتماعي”.

هنا تلعب الأخلاقية الصحافية دوراً مهماً في التوعية بكل ما في معنى التوعية من شمول.

فالمفروض في الصحافي أن يكون حلم الناس وموجه الرأي العام، وإن كان يتأثر بالرأي العام مثلما يؤثر فيه.

ربما كانت الصحف مسؤولة أحياناً عن تضليل الناس، ولكن الجمهور مسؤول كذلك عن إعوجاج الصحف لأنه هو الذي يشجعها أو يعرض عنها.

لذا وجب أن يتحلى الصحافي ـ إلى جانب الخلق المتين ـ بذكاء وقّاد ومعرفة غنية، وخبرة عميقة تمكّنه من أن يقود الجمهور بدلاً من أن ينقاد له.

والصحافي معرّض للاتهام والانتقاد أكثر من أي إنسان آخر لأنه مضطر لتسجيل آرائه باستمرار، ومضطر لتطوير أفكاره وتعديل اتجاهاته أو تبديلها، وفق تزايد تجاربه.

ولو لم يكن مفروضاً في الناس أن يبدلوا آراءهم، ويغيروا مواقفهم، لما كان من حاجة إلى الصحافة التي تخاطب قرّاءها باستمرار لكي تقنعهم بأفكار قد تكون جديدة ومبادئ ربما كانت غير مبادئهم.

إن مجرد محاولة إقناع الناس هو تسليم بديهي بأن على الناس أن يبدلوا آراءهم ويعدلوا مواقفهم ، فلماذا يفرض ذلك في القارئ ولا يفرض في الكاتب نفسه.

إن إصلاح الخطأ ليس تقلباً، والتشبث بالرأي ليس ثباتاً، بل إن الجمهور والشعب هما نقيضا الفكر المنفتح المستنير الذي يؤمن بالحق والحقيقة متى عرفهما ويتخلّى عن الخطأ والضلال متى تبينا لبصره وبصيرته.

هذه إحدى الأزمات النفسية  التي يعاني منها الصحافي الحرّ وهي جانب واحد من جوانب الضنك والإرهاق والتضحية التي تتطلبها الصحافة، هذه المهنة التي تفردت، دون سائر المهن بنعت: “مهنة البحث عن المتاعب”.

إن الصحافة تواجه العقوق والجحود في كل زمان ومكان لجهل قرّائها أو ظلمهم. وهي تتابع نضالها بثبات، مستلهمة إيماناً شبيهاً بإيمان الرسل والمصلحين.

وإذا كنا نتجه اليوم إلى الإعلام كي يلعب دوراً في الوفاق، وبذلك يحدّد مواطنيته، ويرسّخ مرتكزات التطلع إلى المستقبل، فهل هو قادر فعلاً على أن يلعب دوراً في هذا الاتجاه، طالما أن البنادق لم ترفع عن الرؤوس؟ وطالما إن الإرادات التي اختلفت لم تتوافق على الوفاق؟ وإنها مازالت تداور باسمه، في نفق النفاق؟

لقد صار اللبنانيون في ذمّة الحقيقة  ذرات معبأة لخدمة أغراض دخيلة على عالمهم بغية تأصيلها، وحين يصبح الدخيل أصيلاً. وتلعب الكريات الحمراء، دورالكريات البيضاء في الدم، ويلعب الأوكسيجين دور الهيدروجين في الماء والهواء وتختلف المعادلات والحسابات والمقاييس، تختلف طبيعة الحياة في الإنسان وتختلف دورة الحياة في الكون.

هل الصحافي هو الذي قال لفلان أو علاّن من السياسيين: اختلفا فالاختلاف هدف وغاية؟

هل الصحافي قال لهذه القبيلة أو تلك العشيرة: اشحذي السكاكين لذبح الأبرياء باسمي؟

هل الصحافي هو الذي قال لهذه الطائفة  أو تلك: هجري خصومك من بيوتهم فقد جاء مجدي؟

هل الصحافي هو الذي قال لهذا الفريق أو ذاك: احمل سلاحك باسم العقيدة واتبعني؟

هل الصحافي هو الذي قال لهذا الفريق المسلّح أو ذاك: أطلق مدافعك باسمي حتى يوم القيامة؟

هل الصحافي هو الذي قال لهذا الحزب أو ذاك: خلاص الوطن على يديك، فابطش بأعدائك حتى يخروا سجداً تحت قدميك؟

طبعاً، لا، وألف لا.

لقد مارس الصحافيون، في ذروة المحنة، رقابة على أبشع الأقاويل، وأرذل التحريضات، وأحط الارتكابات، وأهملوا نشر الأكاذيب والترهات، وأشعلوا آلاف الشعارات المسيئة والمضلّلة، ومع هذا لم يسلموا وظل دورهم أسير الشبهات.

كيف يمكن لصحافي، أي صحافي، أن يقول للأدعياء الكذبة: اذهبوا إلى الجحيم…

كيف يمكن لصحافي أن يقول للمعلّبين الملتزمين: كفوا عن التخريف.

كيف يمكن لصحافي أن يقول لزارعي الفتنة: رؤوسكم أينعت هذا أوان الحصاد…

كيف يمكن لصحافي أن يقول لمن اقتطعوا الوطن حصصاً حصصاً: ردوا الأمانة إلى أصحابها…

كيف يفعل هذا وتبقى رأسه سليمة على كتفيه.

في زمن تعطلت فيه كل الأدوار… لا دور للفرد صحافياً كان أم غير صحافي… وقد يكون الأمل حتى بالمستقبل ضئيلاً جداً.

وكيف يكون الأمل مشرقاً وكلمات رئيس البلاد في خطاب الذكرى الثامنة والثلاثين للاستقلال أي منذ ما يقارب الأربعين سنة: زمن الوصاية : “لبنان لا يملك قرار خلاصه الكامل” ما زال صداها يتردد حاداً في أذهاننا وأعماقنا، لقد وضعنا وجهاً لوجه أمام موت الوطن!

فلننقذ لبنان إن كنا فعلاً نحبه.

***

 

إن أي رهان، على أية قضية، مهما تعاظم شأنها، أو تضاءل حجمها، في المجتمع العالمي المعاصر، على تعدد دوله وشعوبه، وحضاراته ولغاته، مرتبط                          ارتباطاً وثيقاً بالإعلام.

والإعلام لا يقتصر في فحواه على أنباء الأحداث المنقولة من بلد إلى آخر في إطار المجتمع العالمي، ولا من مدينة أو قرية، إلى جميع المناطق في إطار دولة ما. أو إقليم بعينه، بل يشمل أيضاً جميع المواد التي تكوّن العقل الحديث، بين تربية وعلم وثقافة ورأي، في الماضي والحاضر والمستقبل ولا هو ينحصر في وسائله، أي في الرسائل الصحافية بل هو يشمل الكتب والمجلات والأشرطة المسجلة، والأقلام الثقافية والفنية والعلمية وأساليب الإيضاح السمعية والبصرية، وبرامج الإذاعة والتلفزة التي أصبحت تنقل اليوم إلى بعض أقطار الأرض بواسطة التوابع وأقمار المواصلات الصناعية أو كواكب الإعلام.

من هنا صار للإعلام في كله المتكامل، مفهوم ووسيلة وفحوى، منزلة وأثر في تطور الإنسانية.

وحق الإعلام حقان: أولهما، حق الإنسان أن يُعلِم، وثانيهما حق الإنسان أن يَعْلَم أي أن يمارس “الحرية في طلب الأنباء والآراء وتلقيها”.

ومقابل الحقين، اللذين هما حق واحد أو وجهان لحق واحد، تبعات اجتماعية ينحدر الحق دونها إلى مزالق الخطر، ومرد هذه التبعات إلى التحلي بالصفات الخلقية، والعقلية القويمة التي ينبغي أن يتصف بها أهل الإعلام وطالبوه بين الحياد والدّقة في جمع الأنباء وروايتها، والتروّي في تدبّر الآراء وحسن التقدير فيي التعقيب عليها ومراعاة الحدود التي يفرضها القانون، هذا بالاضافة إلى صفات المواطنية الصحيحة التي تراعي فيما تطلبه ـ ويحق لها أن تطلبه الحدود، التي تضمنها السلطة، والقانون الذي ينظم هذه الحقوق مع التحلي بالورع الشديد في استعمالها، حتى لا يكون فيه أذى اجتماعي فردياً كان أو جماعياً.

وإذا كانت تبعة الشعب تقوم على ضمان الحرية لأهل الإعلام في نطاق القانون، فتبعة أهل الإعلام في شتى نواحيه المتكاملة هي في ممارسة هذه الحرية ممارسة مسؤولة، في تحري الدقة والتحصن بحقائق المعرفة الصحيحة، وقواعد التفكير السليم والأمانة للحق والحقيقة، والوزن الدقيق للمصلحة العامة والإسهام في التثقيف الجماعي والإنماء الشامل.

أما تأثير الإعلام بمختلف وسائله على تفكير الإنسان وذوقه فهي مشكلة العصر الكبرى، فالدول الكبرى لم تعد بحاجة إلى إحتلال بلاد ما أو حكم شعب بالقوة لكي تستعمره بل حلّت وسائل الإعلام محل الجيوش.

ربّ سائل يسأل هل أصبحت وسائل الإعلام وحدها صاحبة الكلمة العليا في تقرير تصرفاتنا ومصيرنا؟

بالطبع لا؟ هناك المعتقدات الدينية والمؤسسات التي تنبع منها، وهناك الأحزاب والنقابات والمنظمات والأنظمة وهنالك المدارس والإدارات: وهذه كلها تؤثر مع الإعلام الحديث على حياتنا وتفكيرنا وتصرفاتنا.

إن وسائل الإعلام تؤثر علينا بلا ريب، ولكن لا بمقدار ما يقال وإن كان أكثر مما نتصور. ومن هنا يمكن القول أن وسائل الإعلام أصبحت هي التي توجّه العالم أكثر مما توجهه الحكومات.

فالإنسان اليوم أصبح أقرب إلى الذين يفكرون أو يعيشون مثله منه إلى الذين يعيشون قربه.

بالأمس كانت النخبة المطلقة هي التي تقرر مصائر الشعوب أما الآن فإن لكل إنسان كلمته. وقد وضعت وسائل الإعلام بتصرفه إمكانية المعرفة الشاملة والكاملة وإمكانية إيصال كلمته حيث ما يشاء.

إن وسائل الإعلام الحديثة بفضل ما لحقها من تطوّر قد قرّبت المسافات والفروقات بين الشعوب والطبقات المختلفة وأوجدت “ضميراً عالمياً موحداً” وخلقت التضامن الإنساني، وهي عوامل من شأنها أن تعدل جذرياً نظرة الإنسان إلى المصير والحياة وأن تبلور قيماً إنسانية جديدة.

ولكن أهم ما يبشر به هذا التطور هو تأثيره على العقائديات المطلقة: المادية منها والميتافيزيقية وحتى السياسية، وإلزامها بإيثار الحوار على السيطرة واللقاء على الصراع.

****

 ألقيت  في مهرجان بكاسين في 22 أغسطس 2016

 

اترك رد