“الناجي الوحيد”

محمد محجوبي

(أديب وشاعر- الجزائر)

مفكرة السنين تلهو بتجاعيده كأنما تضاريس وعرة تلون الأمكنة بأزمنة الناس على بعض شاربيه، تتكثف المنافي البعيدة في تاريخ ما فتئ يلوح برايات عجيبة عن مجمعات ومراكز سكانية ‘ فلربما يكون الاسطورة الخارقة من ديمغرافيا تنامت مواضع الصخور وافتكت بريقها بين السهول والتلال ‘.

كان لا يزال يشارف شجرة الصنوبر التي نفضت أعشاشها السحرية،

فقط بشعوري المتحسر كنت ابحث في عينيه عن عصافير ملونة كانت تأخذ بلب الشغف ‘، ونحن صغار نسعى اصطيادها في عز الصيف الدافئ ‘ فكن نتوزع بين الحقول المخضرة وفي زهو الثمار الطازجة نصنع موسم يروق بعطلة تشجننا بمراتع الطبيعة .

بين الوديان والبرك والمائية كنا نستفز العقارب والسلاحف المائية ‘ أحيانا يودعنا المساء ونحن منهمكون في خربشات سباحة تلامس خصر القمر الهائج

وترفل من شذى الحقول ريعان شبابنا الجنوني ‘ كنا نسلخ من وجه الزمن دعابات باذخة نغفو مجالات السمر الآسر ‘ . فلم نكن لنكبر على غرار شيخنا الباسل الذي تعافى في آخر دورات دورات الحياة ‘ فكم وددت أن تحل عقد لسانه في السرد.

_ احكي لنا يا عمي – الشيخ فجرنا القروي يعشب المسالك

والدواب تناغم القلوب ‘

_ احكي لنا ‘ مرابض الماشية تنعشنا بطيب فضلاتها وأرجاء الزرائب تتركنا لمساء متقدم سبحا في سماوات اللعب

ونحن نحاكي اعراس الكبار بعروس وعريس يخرجان متلازمين بزغاريد الدهشة.

كنا بدعاً من زمان تولى باكيا

لا تبكِ يا عمي الشيخ ‘ فنحن المخلدين في أسفار القرية الفردوس ‘ من سحر الوجد في خيالنا السحيق وعلى مرأى من شجر اللوز والسفرجل والتين كنا ننازل الفرح العجيب نغالبه بضحكاتنا الأصيلة ‘

كان مشدوها لقادم من لب حياة ضاجعته الاحلام ‘ ومصدوماً من نازلة الزمن على سطوح منازل القرميد ‘ وعلى روث الزرائب ‘ وعلى كل الفجاج التي تربعت أحاديث من ياقوت يجذب الصباحات على غدير الماء ‘ ولجة البرك المترامية ‘

يحكي بشلال الغرام يغذي لولب الشوق ‘

حينما نضج في عيني – خيرة – بستان من جمال يتحرك تفاصيل الصباح والمساء

هو سجين حيزها الطروب في هيجان النسيم ‘ يغازل عينيها بين طرفي رغبة تسكن الأعماق ‘

  • فلا يتورع بكاء في حنين الخصوبة ‘ وهي الحسناء تمرق تؤدة وخبالا في مشهد الشمس

تصطف النسوة كحمام يربكه شلال ماء زالال يروض القلوب على الحب ‘ وهو المنزوي الى حماقاته الجميلة عندما سطع خاطره بوجد مضيء ‘

كان يتحسس مشيتها على حفيف اوراق التوت وشدو الطيور وهي تحضن صغارها في غمز السكون ‘

وعندما تأفل أطياف – خيرة – بين أوراق الدالية المعرورشة في سكرة القمر ‘ كان يستبيح أقحوان – الشعر الشعبي – بطابعه البدوي – يلتصق بمذياعه القديم على روائع الشيخ _ حمادة _ ليسلب الليل سكونه الفج حتى عتبة صباح جديد ‘

02 –

 

ريثما تتكشف خيوط القرية من زاوية الشرق على وهج الصباح الشتوي ‘ يتلذذ الجبل الشامخ بغاباته الكثيفة في خلوة الطبيعة ‘ مغارة الحمام تستهوي فضول الرعاة بنكهة المغامرة ‘

ويحتمي – الشيخ – بتعاويذ العناية والتوفيق ‘ ربما هو جدير باهتمام الرعاة في ان يصوغ لهم تعويذات تستحكم أغوار الدهاليز المعتمة ‘

عالم خفي من أسرار رهيبة توحي بجنون النفائس والكنوز ‘ وفي خارطة الذاكرة يستحوذ التاريخ أزمنة القبيلة التي سكنت أمكنة بكل ودائعها القيمة ‘

بالمسجد العتيق ‘ قرب المقبرة القديمة كان الوحيد من فئة – حفظة القرآن الكريم – الذي ظفر بمخطوط في شكل أوراق صفراء بجداول من طلاسم يتوسده مليا ريثما تتقاطر عليه الطلبات الجنونية من أجل التنقيب عن كنز لأولائك القرويين المنسيين بين الفجاج المغمورة وهم يناطحون بجهد السنين وهما يمر عبر تلك الطلاسم والجداول التي هي في حوزته ‘ وحينما زين لهم سوء عملهم دئب الكثير على مرافقة الفأس والمعول واذكاء النيران في مناطق مهجورة ‘ كان _ الشيخ _ نجما في اوساط المحرومين المتعبين ‘ كمن يملك تنويما مغناطيسيا يسفه عقولهم ببعض التعاويذ وبعض الطقوس ‘

وفي الليالي الظلماء ‘ لا ترى الا شعل الضربات تارة على صلد الحجارة ‘ وتارة على قساوة التربة العاتية ‘ في تلك الامكنة يصعب للمطر ان يهديهم سلة الغيث ‘ ويصعب للطيور أن تغني قصائد الانبعاث الاول ‘ حتى الأشجار تموت بحرقة بكائها المستفز لمعاول الذهب والكنوز ‘ الليل يسخر منهم فيسلط عليهم نباح الذئاب والكلاب مختلطة في قطع من الجهد والترقب ‘ وحين يبلغ اليأس قنوط المعذبين يضحك – الشيخ ضحكة المعتوهين يسوف لهم تربة جديدة في غبار صخري ينخر عضلاتهم ‘

وعندما يأكلهم الظلام ‘ يباغتهم نهار لاسع بحرارة الحياة والعقارب تشل قاماتهم وسحناتهم – والشيخ متلبس بضحكات الوهم ‘ حتى عندما يموت بعضهم على عتبات المشافي التي تبدو متواطئة مع تلك العقارب والأفاعي فلا تقدم ولا تِخر في دواء او شفاء.

اترك رد