عالم نجيب محفوظ…

د. حورية الخمليشي

(أديبة وباحثة وناقدة- المغرب)

أجد نحيب محفوظ من عمالقة الرواية العربية بل أشهرهم تأصيلاً وتجنيساً. فهو أوسع الروائيين العرب شهرة بعد نوبل، حيث تُرجمت رواياته إلى معظم لغات العالم. رسم بريشته بناءً روائياً عميقاً. لذلك لم تتحول رواياته بعد موته إلى أوراق خريف، كما يحصل للعديد من الروائيين. لأنها كُتبت بالمعاناة والفرح الإنساني.

وقد اقترن اسم نجيب محفوظ في ذاكرتي برواياته “بداية ونهاية” و”زقاق المدق” و”خان الخليلي” و”ثرثرة فوق النيل” و”القاهرة الجديدة” و”السمان والخريف” و”اللص والكلاب” و”أولاد حارتنا”… وثلاثيته الشهيرة التي تجلت فيها موهبته “بين القصرين” “قصر الشوق” و”السكرية”.

روايات تحول معظمها إلى أعمال سينيمائية مميزة. إنه سجل حافل من العطاء. ما يزيد عن خمسين رواية ومجموعة قصصية قدمها هدية للغة العربية. فإنتاجاته الغزيرة وفنية لغته وسلاستها رفع مستوى الإقبال على قراءة رواياته. فقد كتب الرواية التاريخية كما كتب الرواية الاجتماعية، صور من خلالها تاريخ مصر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.

وهنا لا يسع الحديث عما أنجزه وقدمه نجيب محفوظ للمكتبة العربية على مدى ستين عاماً من الكتابة. ويكفيه أنه كان يستلهم رواياته من الواقع لتصوير عالم زاخر من التحولات الاجتماعية التي جسدها في عالمه المبدع. فسعى إلى إنقاذ مجتمعه من براثين الخوف والجوع والمرض في الأحياء التي نشأ فيها. كان يرى أن الحب والسعادة والأخلاق نشوة الحياة وبهجتها بل وأشرف ما في الحياة. ومن هنا جاء دفاعه المستميت عن العدالة والثقافة واحتقار الأنظمة للمثقفين.

إن الإحساس بشغف إعادة قراءة روايات نجيب محفوظ بالنسبة لي اكتشاف لأشياء جديدة لرجل ولد زمن الانتفاضة والمظاهرات بين المصريين والسلطات الاستعمارية الإنجليزية. وعاصر مختلف التيارات السياسية المطالبة بالاستقلال ونمو الحركات التحررية في الوطن العربي. لذلك كان يستلهم شخصيات رواياته من واقع الناس، فعبّر عن هموم وأحلام الطبقة التي ينتمي إليها. وكان بذلك قريباً من أبطال رواياته في الأسواق والحارات والأحياء الفقيرة التي صور فيها الحياة الحقيقية للمصريين وتقاليد الأجداد، ودافع عن حلمه بالديمقراطية. وأضفى عليها من خياله لتجسيد عالم التناقضات والصراعات الاجتماعية. وهذا ما كانت تجسده شخصيات رواياته. ففي رواية “اللص والكلاب” مثلاً المستوحاة من حادثة حقيقية بطلها محمود أمين سلمان، وهي رواية تحتل مكانة عالية في سماء الفن الروائي. رواية غنية بتعدد علامات الترميز والتلميح. سعيد مهران البطل الذي مثل دور اللص والكلب الذي يطارد اللصوص. وشخصية رؤوف علوان كصراع للجهل والعلم والثقافة. والشيخ الجنيدي المتصوف الزاهد البعيد عما يجري في الواقع. في مجتمع صنعت منه المعاناة والفقر لصوصاً وكلاباً. إنه نقد لاذع في ذلك الوقت للأنظمة ولمجتمع كثرت فيه الجريمة، وضحايا الفساد الاجتماعي وانتشار الرذيلة والفقر والخيانة والغدر. هو ذا عالم نجيب محفوظ الذي سخر قلمه للدفاع عنه وعن صرخات المقهورين والمظلومين في كل الوطن العربي بأسلوب مفعم بالرمزية. وهي رمزية أخذت طابعها الصوفي الفلسفي في السنوات الأخيرة من حياته.

 

 

اترك رد