خالد غزال
(باحث وكاتب- لبنان)
لم تمض أسابيع قليلة على التسوية التي أدت الى انتخاب ميشال عون رئيساّ للجمهورية، حتى بدأ هجوم سوري متجدّد على لبنان. جاءت ردود سورية مهاجمة خطاب القسم الذي كانت فيه إشارات الى سياسة النأي بالنفس عن النيران العربية، خصوصاُ السورية منها.
صدرت هذه الردود من نائب في مجلس الشعب السوري وقيادات أخرى حملت تهديداً صريحاً للرئيس عون ولـ»سياسته الاستقلالية»، مذكّرة إياه بما سبق وناله عام 1990 عندما قصفت طائرات السوخوي قصر بعبدا وأجبرته على النفي الى فرنسا. ترافقت الحملة السورية مع حملة من الإعلام اللبناني الموالي لسورية لم تخلُ من التنديد بالتوجهات التي يرغب العهد الجديد في سلوكها في علاقاته الخارجية. استكملت هذه الحملة بالزيارة الاستفزازية لمفتي سورية الذي أطلق تصريحات مليئة بالتهديد للقوى اللبنانية التي لا تسير في السياسة السورية، وبالطبع منها الرئيس نفسه. وتوّجت هذه التهديدات بتصريحات للرئيس بشار الأسد تسخر من مقولة النأي بالنفس في السياسة الخارجية، التي يقول بها خطاب القسم، وتنذر اللبنانيين بأن النار السورية ستمتد حكماً الى داخل لبنان.
لا شك في أن التحولات العسكرية في سورية، التي أمّنت روسيا فيها للنظام تفوقاً في بعض المناطق، خصوصاً منها حلب، كانت أحد العناصر في وتيرة الكلام التهديدي للنظام والعهد. لكن الموقف السوري، في حقيقته، ليس سوى استكمال لسياسة مديدة سعت فيها سورية الى فرض وصاية على لبنان كانت بدأت عام 1975 وتكرست عربياً ودولياً بعد اتفاق الطائف 1989، لتنتكس موقتاً بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وإجبار الجيش السوري على الانسحاب من لبنان وفي شكل مذل عام 2005. لم تمض أشهر على الانسحاب حتى بدأ هجوم سوري معاكس لاستعادة الموقع السياسي لسورية، مستنداً هذه المرة الى القوى الداخلية، خصوصاً حزب الله وما عرف لاحقاً بفريق الثامن من آذار.
في زمن الوصاية السورية، عانى لبنان طويلاً من هيمنة طاولت جميع المرافق اللبنانية، من السياسة الى الاقتصاد الى الأمن في جميع مجالاته، بما شكّل في الواقع احتلالاً للبنان بكل معنى الكلمة. تسببت هذه الوصاية في منع إنجاز تسوية بين اللبنانيين، ومنع تحقيق تسوية «الطائف» في مفاصل أساسية منها، والأخطر من ذلك كله أن هذه الوصاية حجزت وأعاقت التطور الديموقراطي للبنان، وعطلت مفاعيل مؤسساته ونظامه الديموقراطي على رغم علاته. وساهمت الوصاية السورية في تعميق الصراعات الطائفية، بل وأججت نيرانها، ولعبت دوراً في تفكيك النسيج الاجتماعي للبلد. تصرفت على غرار الدول الاستعمارية التي كان مبدأ «فرق تسد» أساس سياستها في القبض على البلد وتطويع شعبه. فهل سيكون لبنان أمام وصاية متجددة، بعد أن اعتبر النظام السوري أن انتصاراته على شعبه ستتبعها إعادة إلحاق لبنان واللبنانيين بالوصاية؟ بالتأكيد سيعمل النظام بقوة هذه المرة للعودة المظفرة الى لبنان.
في هذا الوضع المستجد، أين يقف الحكم وأين ستقف القوى السياسية اللبنانية، خصوصاً المسيحية السياسية التي كانت الضحية الأكبر للوصاية السورية وتهميشها المسيحيين. التحدي الأول مرمي في وجه رئيس الجمهورية وما يمثله على الصعيد اللبناني من موقعه، وأيضاً بما يمثله للكتلة المسيحية الأوسع. هل سيكون في إمكانه الالتزام بخطاب القسم والإكمال في محاولة إيجاد سياسة عربية متوازنة؟ أم أن الضغوطات والتهديدات الممارسة عليه ستجعله يبتلع خطاب السيادة والاستقلال العزيز على قلبه منذ عام 1989؟ وهل في إمكانه التخاطب مع النظام السوري مستنداً الى حد من الاستقلالية اللبنانية والتشديد عليها من دون أن يعني ذلك سياسة معادية له ولا التحاقاً كاملاً به؟ هل يمكنه تكريس مبدأ أن لبنان لا يحكم بسياسة معادية لسورية، ولا بسياسة محكومة من سورية، بل بعلاقات صحيحة قائمة على حفظ السيادة والاستقلال اللبنانيين؟ والسؤال نفسه مطروح على الكتل السياسية اللبنانية جميعها، لكن المسيحية في شكل أكبر حول أخطار عودة الوصاية وتهميش هذه القوى، وكيف يجب عليها التعاطي؟ صحيح أن ردود فعل صدرت بعد التصريحات الاستفزازية للمفتي، لكنها كانت غير كافية قياساً الى التهديدات وفي وجه الأخطار الزاحفة.
لا شك في أن الهجوم المتجدد يستعر اليوم من خلال منع التسوية السياسية من النفاذ، وعبر تكريس الفراغ بوجود رئيس للجمهورية ومنعه من أن يحكم فعلياً، يتجلى ذلك في العراقيل الموضوعة وفي تشكيل حكومة تكون فيها الغلبة للقوى الموالية لسورية، بخاصة حزب الله المستمر في تعليق الحياة السياسية بالبلد، على رغم الإتيان برئيس للجمهورية ينتمي الى معسكره.
إن لبنان أمام مرحلة خطرة بعد التطورات الجارية في سورية، فهل سيتمكن اللبنانيون من تجاوز الأخطار المقبلة أو الحد من مفاعيلها السلبية في حد أدنى؟ سؤال يحمل علامات استفهام كبيرة.