الأب كميل مبارك
(لوقا 2، 1 – 20)
نتأمَّل في هذا العيد المجيد في سرَّ التجسُّد الذي حقَّق فيه إلهنا الرحيم وعده لآدم وحوَّاء بأنَّ المخلِّص سيأتي من نسل الإنسان، وتحقَّقت كذلك كلمات الأنبياء ومنهم أشعيا الذي قال: ها إنَّ العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمّانوئيل، أي إلهنا معنا، ونقف خاصة عند نقاط اربع:
1 – فولدت إبنها البكر
يقول البعض ومنهم الذين يريدون أن يروا في مريم العذراء أمَّا كسائر الأمَّهات، إنَّ يسوع هو البكر وهذا يعني أنَّ له إخوة. أمَّا نحن فنقول: لقد قال لوقا الإنجيلي عن يسوع إنَّه الولد البكر لهذه الأسباب:
أوَّلاً: لأنَّه الولد الأوَّل، وهذه الصفة أي البكورَّية تطلق، قديماً وحديثاً على كلِّ ولد أوَّل، دون أن يعرف مطلقوا هذه الصفة، أنَّه سياتي بعده أولاد آخرون أم لا.
ثانياً: لأنَّ البكوريَّة عند اليهود وعند بعض الشعوب الأخرى، لها مقامها الرفيع المميَّز، فالبكر هو الوريث الوحيد. وله الحقُّ أن يعطي إخوته من الميراث أو لا يعطيهم. وهنا يسوع هو بكر مريم ولكنَّه كذلك بكر الله، وبكر الخليقة الجديدة، وبكر القائمين من الموت، وله كلُّ ميراث الملكوت، وهو أعطانا بإرادته وحبِّه أن نشارك في الميراث.
ثالثاً: يرثُ البكر أباه مادِّياً وينال منه البركة للاستمرار في إنماء البيت الوالدي، وهنا نتذكَّر قصَّة عيسو ويعقوب أولاد إسحق، حين تدخَّلت الأمُّ بطريقة طريفة، لتجعل إسحق يعطي البركة والميراث ليعقوب وليس لعيسو، الذي وُلِد أوَّلاً ثم أَتى عَقِبه أخوه فأسموه يعقوب.
رابعاً: في بكوريَّة يسوع إشارة نبويَّة ولاهوتيَّة الى أَنَّه آدم الجديد. فكما كان آدم الأوَّل بكرَ الخليقة القديمة، فإنَّ المسيح هو بكرُ الخليقة الجديدة.
2 – وضعته في مزود
جرت العادة أن نزّين بيوتنا وكنائسنا بمغارة وشجرة. فالمغارة بالواقع ليست كمغاور الجبال، إنّما هي المكان الذي كان المسافرون النازلون في الفندق أو الخان، يتركون فيه خيولهم ومواشيهم، فهو أشبه بزريبة الحيوانات. هناك بات يوسف ومريم، لأنَّ الفندق كان ممتلئًا، وهناك ولد يسوع، لذلك وضعته أمّه في معلف الحيوانات.
وفي هذا الحدث إشارة واضحة الى ما قاله بولس الرسول عن ابن الله المتجسِّد: «إنَّه أخلى ذاته أو أفرغ ذاته» من مجد الألوهة ومظاهرها ومن مجد الإنسان ومظاهره، فَوُلد يسوع ليس كما يولد جميع الأطفال في بيوتهم وعلى فراشٍ وبين الأهل والأقارب.
أمَّا الشجرة التي نزيِّنها، فهي عادة كانت معروفة عند شعوب كثيرة، فأخذتها المسيحيَّة مؤخَّراً وأعطتها المعاني التي تنسجم مع حقائق المعتقد المسيحي، التي تشير إلى أنَّ المسيح رجاء الآباء وانتظار الشعوب. لأنَّ اليهود انتظروه تحقيقاً لوعد الله. والشعوب الأخرى كلُّها كانت تنتظر في وعيها أو لا وعيها، منقذاً يرفع عنها الظلم المتمثِّل بالألم والجوع والموت وقهر الناس. وكانوا يحلمون بنوع من الشجر، يثمرُ على مدار السنة، يقطفون منه ليعود مجدَّدًا وَيُثمر، وهكذا يأكل الإنسان بلا تعب ولا عرق الجبين.
فأتت شجرة الميلاد المزيَّنة لتحقِّق هذا الحلم، كما أنَّها ترتبط بالشجرة المحرَّمة على آدم في الجنَّة، وترتبط بالصليب الذي عُلِّق عليه يسوع، وهو شجرة الحياة، والمسيح القائم من الموت هو ثمرتُها التي إذا أكلنا منها لا نجوع من بعد.
3 – جمهور الملائكة يسبِّح الله ويقول: المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر، وفي الناس المسرَّة.
ظهر الملاك للرعاة أوَّلاً ولعلَّه بذلك يلمِّح الى أنَّ البشارة التي حملها لهم سوف يحملها رعاة من نوع آخر، هم رعاة الكنيسة، الى العالم كلِّه. أو أنَّ الله عرف وهو الضابط الكلّ، أنَّه لو أخبر الملاك الكتبة والفرِّيسيِّين عن يسوع وولادته في بيت لحم وأعطاهم العلامة التي أعطاها للرعاة، لقتلوه وهو بعدُ في المزود، لأنَّ مشروعهم الذي نما في قلوبهم لا يخفى على الله.
قال الملاك، على الأرض السلام، بعدما مجَّد الله. والسلام هنا يعني محو آثار الخطيئة الأولى التي خلَّفت العداوة بين الإنسان والله فخافه وهرب منه، والإنسان وأخيه فقتله، والإنسان والطبيعة فأنبتت له الأرض شوكاً وعلَّيقًا، وبات الحيوان المطيع الذي أخضعه الله لسلطة الإنسان مفترساً قاتلاً.
ولادة المسيح، التي هي بداية طريق الصليب والفداء والقيامة التي أكملت فعل المصالحة، زرعت السلام والطمأنينة في قلب الإنسان، الى أنَّ الخلاص آتٍ وأتى، فتحقَّق رجاء الإنسان الصالح.
قال الملاك «الرجاء الصالح» لأنَّ الناس يترجَّون أموراً كثيرة لا تصلح لحياتهم الأبديَّة، كالمال والجاه والسلطة والقوَّة وطول العمر، فبالرغم من حسنات هذه الخيرات، فهي تبقى للأرض الفانية، أمّا الرجاء الصالح فهو مجيء المخلِّص وَوَحْده الصالح للحياة الباقية.
أمَّا المسرَّة بين الناس فتعود الى أنَّ أسباب الحزن الأولى التي ولَّدتها الخطيئة، قد حان وقت زوالها. وكذلك اليوم حين تملأ الخطيئة قلوبنا ويغمرنا الحزن، فلا قدرة تزيله إلاَّ العودة الى المسيح.
4 – المغلي والحَبش والحلوى
جرت العادة أن تصنع سيِّداتنا في البيوت، الحلوى المختصَّة بعيد الميلاد، وهي المغلي والكعكة المسمَّاة «بوش دو نويل» وأن نأكل مع العائلة حبش العيد، فمن أين هذه العادات؟
أوَّلاً ليس في هذه العادات أمرٌ مقدّس ولا بَرَكة خاصة، فبإمكان البيوت أن تمارسها أو لا تمارسها.
أمَّا المغلي والحبش فهي عادة مكتسبة ومتطوِّرة ممَّا كانت عائلاتنا قديماً تهدي المرأة التي تلد، فقد كانت الهديَّة الفضلى والمقبولة والممكنة، بعضاً من الأرزِّ والسكَّر، وفي أحسن الحالات يذبحون لها الديك. وهكذا أصبح الأرزُّ والسكَّر مع التطوُّر حلوى المغلي، وأصبح ديك الدجاج بفعل التأثُّر بالمأكولات العالميَّة، ديك الحبش.
أمَّا «بوش دو نويل» فهي عادة غربيَّة قادمة من بلاد الثلج. فقد كانت الهديَّة المثالية في ليالي كانون الباردة، بعضاً من الحطب وهو فاكهة الشتاء، يشعلونه ويتدفَّأون عليه في زمن لم يكن الشوفاج ولا المكيِّفات ولا الطاقة الشمسيَّة إمكانيَّة موجدودة. وحين دخلت هذه الأساليب للتدفئة، لم تلغِ العادة في هديَّة الحطب، بل طوَّرتها وأصبحت قِطعُ الحطب، قطعاً من الحلوى حافظت على شكل الحَطَب، أسميناها «بوش دو نويل».
أعاده الله عليكم بالمسرَّة والرجاء الصالح والحلوى الطيِّبة.