قزحيا ساسين
(شاعر- لبنان)
إن حكاية مؤلِّفي الكتب المدرسيّة تطول، لا سيّما هؤلاء الذين يؤلفّون كتب الأدب العربي. وما يهمّني أن أثيره الآن هو مسألة الغزل عند العرب قديماً وحديثاً، ولو أن الكلام سيأتي غير وافٍ بالغرض لأنّه ليس يندرج في بحث معمّق.
لا أحد يجهل أنّ للعرب القدامى شعراً في المرأة يتوزّع، بحسب المفهوم الأدبي الكلاسيكي، على ضفّتين: ضفّة العذرية، وضفّة الإباحية. ولكلّ ضفّة شعراؤها الأعلام. ولا شكّ أنّ هذا المفهوم متأثّر باعتبارات اجتماعيّة. فعرب الجاهلية، وما بعدها، حتّى قبل يومنا بقليل، محاصَرون اجتماعياً بسياج أخلاقيّ شائك يجعلهم يرفضون علناً ما يعتنقون سرّاً. وإنّ جسد المرأة تحديداً يقف وراء الكثير من قراءتهم للعرض والشرف والكرامة… والغريب في الأمر، أنّ مؤلفي الكتب المدرسيّة ليسوا من أهل الخيام، من حيث المبدأ، فهم أبناء زمن حديث لا يحمل زجاجه الرمل على كتفيه. ورغم ذلك، هم يروون حكاية الغزل عند العرب ويتمادون في إرضاء شيخ القبيلة والشرف الرفيع الذي لا يسلم “حتى يراق على جوانبه الدّم”… هؤلاء المؤلّفون والناقدون والمحلّلون والمنظّرون، يجمعون على أنّ الغزل العذري قداسة، وعلى أنّ شعراءه قدّيسو الحبّ، الراسمون المرأة أيقونة روحية، فهي تُحِب وتُحَب بلا جسد، لكأنّ جسدها خطيئة تحملها على كتفيها…
وانطلاقاً من هذه الرؤية تمجَّد قوافل الشعراء العذريّين، وتحلَّل عذريّتهم بعيداً عن أيّ منطق عقليّ، ليصبحوا أبطال الكلمة العاشقة، إذ إنّهم يلتزمون عاطفياً بامرأة واحدة إلى آخر العمر، وإلى ما بعد الموت أيضاً، وعندهم في عيونهم سائل عجيب يسمح لهم برؤية المرأة عارية من جسدها، مرتدية شكل الجسد الفارغ الذي تملأه الروح…
ممّا لا شك فيه أن الحبّ الذي يفتح أشرعة الروح على مداها هو الأشهى إبحاراً، غير أنّ الحبّ الذي لا يدير ظهره للجسد ليس حباً متّهما، ولا يرمي الروح حجراً. وعليه فإنّ شعراء “الإباحية” بالمفهوم الكلاسيكي ليسوا الشياطين ذوي القرون السوداء، وليسوا، كما يحلو لمؤلفي الكتب أن يروهم، خالين من ألم العاطفة المبارَك. فعلى سبيل المثال لا الحصر، هؤلاء يرون عمر بن أبي ربيعة وأمثاله شعراء لم يزر الألم صدورهم وقوافيهم يوماً، فقط لأنهم لا يلتزمون بالمرأة الواحدة، ولأنّهم أصحاب قلوب تستطيع الحبّ أكثر من مرّة على سنّة ابن أبي ربيعة: “سلام عليها إن أحبّت سلامَنا / وإن كرهته فالسلام على أخرى”. وهنا لا بدّ من السؤال: من الذي يتألم أكثر، الشاعر الذي وجد إمرأة تملأ حياته وقلبه وقوافيه، أم الذي لا يزال ينشد أنثاه في نساء الارض كلّهنّ ويعود قلبه كلّ مساء إلى صدره بخُفّي حنين؟! نعم إن الشعراء العذريين يتألمون، لكنّهم يمجَّدون أحياناً كثيرة على مرضٍ، فهل من المنطق أن يبقى شاعر على هوى لا يتّسع فيه القلب لخفقة أمل، معلِّلاً نفسه بلقاء صار في ذمة المستحيل بعدما أمست المرأة التي لم يذق عسل لقائها يوماً في خيمة رجل آخر، أخرج من حديقة جسدها أولاداً، ومشَيَا تحت قناطر المشيب معاً؟!
والغريب أن مثل هذا الشاعر المتصدِّر قافلة الشعراء العذريين يرد في قصيدته “المدرسية” بيت تحتضن أحرفه الجسد بشهية، لم يرد مثيل له في قصيدة لعمر مدّاح النساء. يقول جميل بن معمر “العذريّ”: “يكاد فضيض الماء يخدش جلدها / إذا اغتسَلَت بالماء من رقة الجلد”. وهذا البيت بمقياس نقّاد شيخ القبيلة “سوسة” ترعى جمال العذريّة وتذهب به، وليت إبن معمر تركه على بساط باله ولم يأذن له بالوصول الى صوته العاشق. قد يكون من مبرّر للعذريّة والاباحيّة أن تُطرحا كما هما في زمن مضى لم يتسع للنضج والشجاعة الأدبية والتحليل العميق والدقيق نفسياً وادبياً واجتماعياً… أما اليوم، وبعد أمين نخلة والاخطل الصغير(بشارة الخوري) وعمر أبو ريشة ونزار قباني… فأصبح من العيب قراءة قصائد الحبّ على ضوء قناديل شيوخ القبائل. وبات من الملحّ الاعتراف بضرورة المصالحة بين الروح والجسد تحت شمس الشرق الطاعنة في الذكوريّة… إنّ العذريّة والاباحيّة حالتان يعيشهما الشاعر نفسه. حالتا حبّ من شعر الرأس حتى أخمص القدمَين. فالشاعر إنسان طبيعي جداً، وحين يكون مرتاحاً لأسر شباك الحبّ، أحياناً يفتح عينيه جيداً ولا يرى جسد من يحب إنّما يكون في انخطاف نحو عوالم الروح وما لا يُرى، وأحياناً أخرى يفتح عينيه جيداً أيضاً فيجدهما لا تتَّسعان كما يجب لجسد من يحبّ، دون أن يعني ذلك انفصاماً في الشخصية العاشقة أو انتقالاً من سماء إلى جحيم، ولا بدّ من الاشارة الى أنّ الجسد ليس خالياً من ايقاع الروح كما أنّ الروح ليست بريئة من الجسد، فالاثنان يحترفان التواري في بعضهما البعض، وينشدان الحبّ بالحنجرة نفسها.
ولقد فات هؤلاء المهتمون بكتب الأدب المدرسيّة، وغير المدرسيّة أيضا، أن النقد والتحليل لا يكونان بتبنّي مفاهيم سابقة، مثلما فاتهم أن الحبّ لا يقاس بمسطرة الوقت، أو على الأقل بمسطرة الوقت وحدها، وأنّ نزار قباني، على سبيل المثال، لم يكتب لبائعات الجسد – وأنا أحترم آلامهنّ – أنّما لنساء أحبّهن ما استطاع قلباً وجسداً وشعراً…
إنّ من الملحّ، اليوم، تربية أولادنا بعيداً من العقد، وتعريفهم على الحبّ وشعره معرفة حقيقية، حضارية، ناضجة… ومن الملحّ أيضاً تخليص الفن من لعنة الأخلاق عندنا، فالفنَ ينقّي ويطهّر إلى حدّ أنه ينظّف العراء من الخطيئة إن وُجِدت. وإذا كان في الشعر محظور، فهو الأقرب إلى أن يكون شتائم موزونة ومقفّاة وما شابه… ولم يطلب أحد تدريس “شيطنات” المثلّث الأموي: الاخطل والفرزدق وجرير في الكتب المدرسيّة، ولا “مفاخرة الغلمان والجواري”… وفي ما عدا ذلك يمسي التعفّف تخلّفاً، والحرص على الأخلاق تجذيفاً يتعارض مع رياح الحياة التي تمضي بنا دائماً نحو الأمام حيث الأجمل والأنقى والأبقى…. والشعر الجميل جميل إن اصطاد بقوافيه الحلال سمك الجسد أو عصافير الروح، وإن نزار قباني رائع في قوله: “أحبيني لأيّام… لساعات… / فلست أنا الذي يهتم بالأبد”، كما أنّ جميل بثينة رائع في قوله: “يهواك ما عشت الفؤاد فإن أمت/ يتبع صداي صداكِ بين الأقبُرِ”.