بلال حسن التل
(كاتب- الأردن)
أزعم أنني أكثر من اشتغل على تراث الشهيد وصفي التل وجمعه وتوثيقه وإحياء ذكراه. وأزعم أن إصداراتنا في المركز الأردني للدراسات والمعلومات, وقبلها في دار اللواء للصحافة والنشر, هي صاحبة الإسهام الأكبر في جمع تراث الرجل, كما أنها مصدر أساسي ورئيسي للكتابة عنه بموضوعية. مثلما كنا أول من نظم عنه ندوات ومؤتمرات علمية كبرى ساهمت في إبقائه حياً في ذاكرة الأجيال وفي المحافل العلمية والفكرية.
غير أن السؤال الذي صار يلح علّي كلما اقتربت ذكرى استشهاد وصفي هو: ما قيمة كل هذه المظاهر الاحتفالية بالشهيد والتغني بمآثره إن لم تقترن أقوالنا عن هذه المآثر بأفعال تجسدها، وفاء للشهيد وتأسيًا به؟ فميزة وصفي التل الرئيسة أنه كان رجلاً يقرن القول بالفعل، وتلك ميزة أصحاب المشاريع الكبرى في تاريخ شعوبهم أنهم يؤمنون بأن الكلمة تأخذ قيمتها من تحولها إلى واقع يعيشه الناس.. وهو بالضبط ما فعله وصفي التل الذي نكثر الحديث عنه، والتغني به، ولكننا نوغل في الوقت عينه في خيانته عندما نخون مشروعه ولا نسعى لتحقيقه، بعد أن دفع صاحب المشروع حياته فداء لنا.
إن قيمة الشهيد وصفي التل الحقيقية أنه كان يمتلك مشروعًا متكاملاً برؤية واضحة، هو مشروع الدولة القوية، العادلة، المنتجة، المكتفية، المقاومة، من خلال سعيه إلى بناء مجتمع قرطاجنة في الأردن ليكون مجتمعًا مقاومًا مكتفيًا، ولذلك غيبوا جسده عندما أطلقوا الرصاص عليه، وقتلناه نحن عندما تخلينا عن مشروعه في بناء الدولة القوية, التي ضحى وصفي بدمه في سبيل أمنها وسيادتها واستقرارها. وها نحن نبكي على ضياع هيبتها، بعد أن تباكينا على انسحابها من أداء أدوارها المركزية في رعاية المواطن وحمايته، وخاصة حماية أمنه الذي استشهد وصفي في سبيله، فبعد أكثر من أربعة عقود ونصف من دفع وصفي دَمَه ثمنًا لاستقرار الأردن ولتحقيق الأمن للأردنيين، ها نحن نتساءل اليوم عن هويتنا الوطنية ومصيرها, ونحن نشاهد ونلمس كل محاولات طمسها وتذويبها بوسائل كثيرة.
ما أريد أن أقوله في الذكرى الخامسة والأربعين لاستشهاد وصفي التل هو: صحيح أن القتلة أطلقوا الرصاص على جسد وصفي لكننا نحن من قتل وصفي فعلياً بتخلينا عن مشروعه, واستكمال السير على دربه, لبناء الدولة القوية العادلة والمجتمع المنتج المكتفي, وأنه قد آن الآوان لكي ننتقل من حالة النحيب على وصفي إلى حالة تجسيد فكره وبناء مشروعه وأول ذلك: إن وصفي كان يؤمن ببناء القوة الشاملة وقوامها التنظيم، والحزم، والإنجاز، والترفع، والزهد. فأين نحن من ذلك كله؟ سؤال نطرحه في ذكرى استشهاد وصفي لنجدد الدعوة لكي تنفر منا طائفة تتبنى مشروع وصفي وتعيده إلى الحياة وهذا هو التكريم الحقيقي للشهيد ولن يتم هذا إلا من خلال إعادة قراءة الرجل لنعرفه عن حق من خلال قراءة تراثه الفكري وتجربته بالحكم، وليس من خلال مجرد سماع القصص عن مواقفه.. وعندها سنكشف الكثير من صور خيانتنا له ولمشروعه ومنها أننا:
• تحولنا إلى مجرد ثرثارين، بينما كان هو رجل عمل وإنجاز.
• إننا نفر من تحمل مسؤولياتنا الوطنية، بينما كان هو يتصدى لحمل المسؤولية ودفع تكاليفها.
• إننا تخلينا عن الأرض، وعن الإنتاج، وحولنا الأرض إلى مجرد سلعة وصرنا عالة على ما ينتجه الآخرون.
• إننا لم نتمسك بمنظومتنا الأخلاقية التي تربى عليها وصفي، وظل يدعو إليها متزاوجة مع العقل.
• إننا لم نعد نصدع بكلمة الحق ولا نمتلك الجرأة لاتخاذ الموقف الحاسم. فصار لنا خطابان: واحد في السر، وآخر في العلن؛ بعكس وصفي صاحب الموقف الواحد المتطابق في السر والعلن.
• إننا لا ننخرط في أطر ناظمة لجهدنا الوطني بينما كان الرجل داعية للعمل الجماعي المنظم.
• إننا لا نعطي الثقافة الأهمية التي تستحقها، ولا نجعلها في قائمة أولوياتنا بينما كان وصفي راعيًا للثقافة.
على أن الفالقة بيننا وبين وصفي هي هذا الصمت القاتل عن ما يجري لنا ويجري حولنا. ويهدد وطننا.. فميزة وصفي الكبرى أنه كان يرفض الممالأة، ويرفض الصمت، حتى لو كان ثمن ذلك أن يمضي شهيدًا دفاعًا عن الذين خانوه فيما بعد… عندما غرقوا بالصمت.