«دم الأخوين» ومجالات العنف المتنوعة في الحروب الأهلية

khaled-ghazal

خالد غزال 

(كاتب وباحث- لبنان)

استوحى فواز طرابلسي عنوان كتابه «دم الأخوين» من اسم شجرة نادرة موجودة في جزيرة سقطرى اليمنية، تقول الأساطير إنها إشارة إلى قتل قايين أخاه هابيل.

واقعة القتل هذه تؤسس لولادة الحضارة الإنسانية التي قوامها قتل الأخ، كما هي تعبير عما تمخّض عنه هذا القتل من حروب أهلية اجتاحت البشرية منذ ولادتها ولا تزال تتوالد حتى اليوم. يحوي الكتاب عشرة فصول تتضمن عناوين مختلفة تتراوح بين السياسة والفن والأدب والتحليل السيكولوجي، والعناوين هي: العنف في الحروب الأهلية: وظائف وطقوس، الملصقات بما هي أسلحة، عن الشر وما يرسمون، كاثي كولفتس: وجوه الأمومة في وجه الطغيان والموت، ما نفع الشعور بالذنب؟ هاينر موللر ومسرح العدوان على الواقع، الدائرة الكاملة: طفل قتيل وطفل قاتل، عصفورك أحدب يا محمد، غيرنيكا لكل حروب العرب، وحفريات السماء- حفريات الأرض. صدر الكتاب عن «رياض الريس للكتب والنشر» في بيروت.

يحتل الفصل الخاص بالعنف في الحروب الأهلية الحيّز الأكبر والأساس في كتاب طرابلسي. فهو يتناول الأواليات والأشكال التي يتّخذها العنف كما عرفها لبنان، خصوصاً في حروبه الأهلية التي لم تنقطع منذ منتصف القرن العشرين. يشير الكاتب إلى أنه اعتمد «تمييزات حنة إرندت بين سلطة وقوة وعنف. تتميز السلطة بأنها تتكئ على اعتراف ما من المطالبين بالطاعة، أي على مقدار من القبول. أما القوة، فترتكز على التفوق العددي. وحده العنف يكتسب «طابعاً أدواتياً»، وينطوي على فرض الإرادة على الخصم بواسطة أدوات، باتت الأكثر شيوعاً بينها الأسلحة طبعاً». من هنا يجب فهم الحروب ليس من خلال معناها التقني بمقدار ما يجب قراءتها في وظائفها، حيث يسعى فرقاء النزاع إلى فرض إرادتهم على خصومهم. وفي مجرى الصراع، يخلق العنف طقوسه الخاصة، خصوصاً عندما لا يعود الهدف العسكري محور أهدافه.

guilaf-dam

من أنواع العنف المعروفة ما يجري التعبير عنه بعنف الجماهير. يستعيد الباحث ما عرفته الحرب الأهلية اللبنانية في مراحلها الأولى من فوضى أهلية نزلت بموجبها مجموعات تعتقد أنها تريد ضرب الطبقات الغنية وتعيد توزيع الثروة العمومية عبر نهب البيوت والمرافق العامة من مرفأ بيروت إلى وسط المدينة وأحياء الفنادق والقنطاري وغيرها. في هذا المجال، تناوب المقاتلون من الطرفين، في الشرقية والغربية، على نهب وسط مدينة بيروت. «اجتاحوها لأن في تلك المدينة كانت تعيش مدينتان: مدينة لسكانها، ومدينة ليست لهم. مدينة للأغنياء، ومدينة للفقراء». هكذا تجلى العنف الجماهيري بصبغ نفسه بطابع اجتماعي عبر نهب المدينة نفسها.

النوع الآخر من العنف هو ما يتصل بـ «عنف القبيلة»، حيث تتمظهر لبنانياً من خلال هيمنة الطوائف بمؤسساتها وسلطاتها ومن نفوذ المرجعيات الدينية والمذهبية. كما تتمظهر من خلال انبعاث القيم العشائرية والقبلية التي لا تزال راسخة في البنى الاجتماعية اللبنانية، بل وتحدد مصير هذه البنى في المرحلة الراهنة بعد انهيار الدولة إلى حد بعيد وعجزها عن تمثيل المساحة المشتركة للبنانيين، هذه المساحة التي اكتسحتها الطوائف ومؤسساتها وقياداتها. لعل بعض المظاهر التي برزت خلال الحرب الأهلية يظهر كم أن العنف الموروث من القبيلة لا يزال يلعب دوراً كبيراً في سلوك المواطن اللبناني. ومن التجليات هنا ما يتعلق بإهانة العرض بما هي «الجرح الرمزي» الأعمق الذي يبلغه العنف اللفظي، خصوصاً أن الرجولة تتجلى في الدفاع عن العرض. ومن الجروح الرمزية الأخرى تلك المتصلة بهتك الأعراض بواسطة الاغتصاب. كما ارتفعت شعارات «أرضك وعرضك»، وهو شعار رفع بشكل أساسي ضد الغرباء في الوطن الذين «يدنسون الأرض».

harb-loubnan

من الحرب اللبنانية

أما النوع الثالث من العنف فهو ما يطلق عليه «العنف المقدس». في الحرب اللبنانية كانت لهذا العنف تعبيرات متعددة، من قبيل تشبيه اغتيال بشير الجميل بصلب المسيح بما جعله قديساً أبدياً. ويقع في السياق نفسه اختفاء الإمام موسى الصدر في العام 1978، والذي يرفض الشيعة التسليم بمقتله ويشدّدون على عودته سالماً، رغم كل ما ثبت عن قتله وتوثّق بعد الانتفاضة الليبية عام 2011. كما عرفت الحرب اللبنانية انبعاثاً للمعجزات من قبيل ظهور السيدة العذراء تعبيراً عن دعمها للميليشيات المسيحية ضد «الأعداء» من المسلمين والغرباء.

في عنوان يحمل طابع الاستفزاز: «ما نفع الشعور بالذنب؟»، يسعى طرابلسي إلى إثارة أسئلة عن الموقع الذي يحتله «الذنب» الفردي والجمعي في منظومة من الظروف الرمزية أو الحقيقية. في قراءته لمسألة الذنب في النزعة الثقافوية، يعرّف هذه النزعة بأنها «تفسير للحياة والظواهر المجتمعية وسلوك البشر بناء على جواهر ثابتة وهويات راسخة عادة ما تكون منبئة في الدين واللغة». لعل برنارد لويس وتلميذه صموئيل هنتنغتون يعتبران رائدين في اعتبار الجماعات جواهر ثقافية وهويات متفرّدة تستدعي دوماً تمايزات وتراتبية وفوارق من قبيل النظرة إلى الغرب قياساً إلى الآخر، وهو ما تجسد في مقولة هنتنغتون عن صراع الحضارات الذي حدده بكونه صراعاً بين الحضارة المسيحية وبعض الحضارات الشرقية، خصوصاً الإسلامية. ينجم عن هذه النظرة خلق ما يمكن تسميته في الغرب بثقافة الخوف من الإسلام والتيارات الإسلامية، وهي نظرة تعزّزت بعد هجومات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 في الولايات المتحدة الأميركية. كما يشير طرابلسي إلى صيغة أخرى للثقافوية مرتبطة بالنيوليبرالية المتعولمة والتي ترى بأن الغرب يمكنه أن يلقّح الآخر غير الغربي بالبعض من خصائصه الثقافوية، وهي نظرية استعمارية بامتياز شكّلت الغطاء الأيديولوجي لغزو الغرب للعالم الثالث واستعماره ونهب ثرواته.

11-sep

هجمات 11 سبتمبر

أما «ثقافة الشعور بالذنب وثقافة الغيب»، فيراها الكاتب بأنها مقولة استشراقية تجابه ثقافة الشعور بالذنب الغربية بثقافة العيب الشرقية. فـ «إغراء الذنب» يؤدي إلى اكتساب المعارف الجديدة ويفتح طريق المستقبل للمذنب، بما يشجّعه على التفوّق على الآخرين. أما ثنائية الذنب/ العيب فهي ناشئة عن مقاربتين: دينية وتاريخية. «دينياً، تبدو الإشارات المتكرّرة إلى رواية آدم وحواء والخطيئة الأصلية، المؤسسة للشعور بالذنب، على أنها متهافتة إلى أبعد حد. المؤكد أن آدم وحواء، بحسب الرواية، شعرا بالذنب بسبب أكل الثمرة المحرمة. إلا أن رواية الخروج من الجنة هي أيضاً رواية عن العيب، لأن آدم وحواء قد خجلا من عريهما». يخرج الكاتب باستنتاج يؤكد على أن الإسلام يشارك في رواية آدم وحواء، وأن الإسلام يحوي تراثاً من الشعور بالذنب متمثلاً بطقس عاشوراء التي تعيد تمثيل استشهاد الحسين في كربلاء. هذا الطقس ينطوي على الضرب بالسياط والجنازير وتجريح الجسد، في وصفه عقاباً ذاتياً على الذنب التاريخي الذي ارتُكب بعدم نجدة الحسين في كربلاء وتركه يقاتل وحيداً. هكذا، يختلط في كتاب طرابلسي التفاعل بين الكتابة الأدبية من شعرية وفنية مع الكتابة السياسية لمواضيع متعددة لبنانياً وعالمياً، تتجلى في جملة عناوين معبرة.

 

اترك رد