د. عبد الرؤوف سنّو
(كاتب وباحث ومؤرخ – لبنان)
يروي “سنوات جميلة، سنوات مجنونة”، كتاب العميد الدكتور محمد شيّا الجديد، قصص الحياة والموت في جبل لبنان خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وهدفه إنعاش ذاكرة اللبنانيين بشهاداته الشخصية حول الأوضاع التي عصفت به، كي لا ينسوا ما كان رائعاً وواعداً في تعايشهم قبل اندلاع الحرب عام 1975، وما أصبح عليه الحال بعد ذلك من جنون لا يُطاق عندما تحوّل وطنهم إلى “مختبر للسياسة والحرب، وجلجلة للألم والموت” (ص 13).
روحية الكتاب إدانة العنف والحرب تحديداً، فـ”ليس في الحرب ما يستحق الفرح أو الاحتفاء أو الفخار”، كما يؤكد، فيوظف كل أدوات المعرفة، من أدبية واجتماعية وجغرافية وديموغرافية وتاريخية وسياسية وإنسانية ونفسية، ببراعة وموضوعية لجعل القارئ مشدوداً، وإن بأسى وحسرة وألم، لمتابعة فظاعة الحرب وعبثيتها. من هنا دعوته الصريحة إلى جيل الشباب الذي لم يعشها، لنبذ الحرب، والإقبال على ثقافة المحبة والحياة.
وفق الباحث، جمع لبنان قبل الحرب بين نقيضين: لبنان الفندق بمعناه الواسع، جمالاً وروعة وسهرات وتجارة ناشطة ونظاماً مصرفياً، ولبنان الطبقي والمناطقي، الذي قام على بؤس أكثرية اللبنانيين، وإن حاولت الشهابية التخفيف من حدته، عبر إصلاحات رأى أن التعليم الرسمي كان أهمها وأنجحها. أما الطائفية، فلم تكن أطلت برأسها القبيح قبل السبعينيات. ويعطي بحمدون مثالاً على “العيش الواحد المشترك”، إذ كان “الآخر” قريباً ومحباً وودوداً (51). وغلب على الحياة العامة الصراع المدني المتجه نحو “الحداثة”، وأدت الأندية الاجتماعية والثقافية والرياضية دوراً في ذلك التحول الذي يأسف المؤلف لعدم اكتمال مساره بتأثير الصراع العربي – الإسرائيلي منذ هزيمة عام 1967 وتضارب مشاريع ومصالح الأطراف اللبنانية، فضلاً عن عدم قدرتها على “فهم بعضها بعضاً… والتلاقي في غير فرصة أتيحت”، فدخلت البلاد في حرب مجنونة رفعت من منسوب العصبية والفئوية، والتقوقع الجغرافي والنبذ الديموغرافي على حساب التعايش.
يعرض شيّا خلافات اللبنانيين على هوية بلدهم التي أدخلت البلاد في أتون الحرب: لبنان القومية اللبنانية، وغلبة طائفة على حساب طوائف أخرى، ولبنان القومي العربي أو اليساري الساعي إلى تغيير النظام وأدواته مع كل ما يستلزم ذلك من أيديولوجيات وإعلام وخطابات متناقضة من قبل الفريقين المتحاربين لتسويغ الاستقطاب والاحتراب، حتى القضاء على “الآخر”. ومن دون أية مواربة، يحمل جميع المتحاربين مسؤولية الحرب التي أطاحت التعايش القديم، وكل ما هو وطني. لكنه يعطي أمثلة على أن “حرب الجبل” لم تكن طائفية بامتياز، وإن صُنعت بأيدٍ لبنانية. فكانت مطلوبة من الخارج الذي يرفض المؤلف أن يسميه، فيكتفي بالقول إن الجميع أخطأ، وكان “اللبنانيون، وفي طليعتهم كمال جنبلاط وأحزاب الحركة الوطنية، مجرد أداة أو طعم جرى تشجيعه وتسليحه ودفعه نحو مشروع تغيير ثوري للنظام السياسي اللبناني، ثم في اللحظة المناسبة انقض النظام السوري على الطعم وتخلّص منه، بعدما باتت السمكة الكبيرة (الساحة اللبنانية) في اليد” (113). والمعروف أن جنبلاط لم يكن قبل الدخول السوري إلى لبنان يدرك حقيقة التوافق السوري – الإسرائيلي السري (اتفاق الخط الأحمر) على تقاسم النفوذ في لبنان، ولا “تشجيع” مصر السادات الحركة الوطنية لتحقيق مكاسب شخصية، بالضغط على الأسد في لبنان لغض الطرف على مشاريع السلام مع اسرائيل.
في المرحلة التي سبقت الحرب، نرى الباحث، ومع أنه لا يروي سيرته الذاتية فتى يتلقي العلم في بيروت. وهنا، في العاصمة وكلية التربية في الجامعة اللبنانية، يحدث التحول الحقيقي في شخصيته وفكره وثقافته. فُتحت عيناه على العمل النقابي الطلابي والحزبي والتيارات السياسية التي كانت تعج فيهما منذ أواخر الستينيات متأثرة بالثورة الطلابية في أوروبا، ولا ننسى تأثير المقاومة الفلسطينية في الشباب اللبناني. فينتسب إلى الحزب التقدمي وينشط في “مكتب الإرشاد السياسي” في عاليه. وهذا سمح له أن يكون قريباً، فكراً ونضالاً، من المعلم كمال جنبلاط.
وفي حين يتحدث عن “تجار” الحرب والمستفيدين منها خلال عامي 1975 و1976، ومن ضمنهم أحزاب، ورجال دين، والنظام السوري وإسرائيل، ومقاومة فلسطينية خرجت عن هدفها النبيل، تقدمت مصالحهم جميعاً، الشخصية والفئوية والطائفية، على كل “مفاهيم” الوطن والإنسان، لا يتوانى العميد شيّا عن الإشادة بالأبطال الحقيقيين المنسيين تاريخياً وتأريخياً الذين صمدوا وتعاضدوا وحفروا بأظافرهم “طريق الكرامة” لرفع الحصار عن بيروت، حتى أن هؤلاء رفضوا الانتقام لقتلاهم، مفضلين لغة التسامح والغفران على حمامات الدم والحقد والكراهية. ورفضت السيدة أم شوقي تصفية عناصر من الجيش اللبناني على أيدي الميليشيات المحلية في بدغان ثأراً لمقتل نجلها مطلع عام 1976. فخاطبت المسلحين بجرأة وثبات: “بوس إيدكن، وروح شوقي، اللي بيحب شوقي، ما بيحط إيدو عليهم. إذا بتحبوا شوقي تركوهم. حرام على اللي بيمد أيدو (كذا) علين” (104). لكنه من جهة أخرى ينتقد بشدة وجرأة أعمال القتل العشوائي للأبرياء في الجبل إثر اغتيال كمال جنبلاط على أيدي أبناء مذهبه، ويصفها بـ”أعمال قتل ثأرية غريزية وهمجية” (114 – 115). في “السنوات المجنونة” بين 1982 و1990، يعتقد شيّا أن جبل لبنان، وتحديداً العلاقة الدرزية – المسيحية كان ميزاناً للتعايش العام. فإذا كان الجبل متعافى، فالجسد اللبناني كله بخير وسلام. أما العكس، فمعناه الانتحار. إن دخول الميليشيات اليمينية إلى الجبل بعد الاجتياح برعاية الدبابات الاسرائيلية، وتعدياتها على السكان، والانسحاب الإسرائيلي المفاجئ منه في أيلول 1983، هزّ عن حق التعايش السابق وفتح المنطقة على صراع عسكري استمر لسنتين، ليس في الجبل وحده، بل في غرب بيروت، حين اندلعت “انتفاضة 6 شباط” 1984، رداً على إجراءات الجيش الصارمة وغير المبررة ضد سكانها. فكان أسوأ نتائجها الانشقاقات في الجيش اللبناني على أسس طائفية، وتورطه في حرب أهلية، والإعلان عن تأسيس “الإدارة المدنية في الجبل”، في مقابل “الإدارات” الحزبية في مناطق اليمين المسيحي. أما ذروة الحرب الداخلية، فكانت خلال عامي 1988 و1989، وهي صفحات يسهب المؤلف في عرضها، مليئة بالمعاناة والفلتان والانتهاكات لحقوق الإنسان والتهجير والهجرة، و”ضياع كلي للوطن”، كما انهيار الاقتصاد وتآكل العملة الوطنية.
ولا يكتفي شيّا بعرض السنوات الجميلة ونقيضها المجنونة، بل يقترح “الدواء” للداء اللبناني، وفي مقدمه اعتراف اللبنانيين بمسؤوليتهم عن الحرب، وتحييد لبنان عن مصالح الخارج فيه، وبناء لبنان مدني، ديموقراطي، “لا طائفي”، وإلا فـ”لبنان غلطة جغرافية وليس وطناً…” (222). فضلاً عن التفكير بطرق مختلفة كي لا تنتقل الحرب والصراعات من جيل إلى آخر.
كتاب سنوات جميلة، سنوات مجنونة (350 صفحة، قطع كبير)، كتاب حلو ومرّ، وفي منتهى الواقعية لجهة المادة، ومنتهى الاتقان والإثارة لجهة الإسلوب الروائي والتصويري. كتاب يستحق القراءة وأخذ العبرة المناسبة منه.
****
(*) جريدة المهار 24 نوفمبر 2016