خالد غزال
(كاتب وباحث- لبنان)
ألصقت صفة الإمبريالية منذ القرن التاسع عشر بالدول الغربية، الأوروبية أولاً ثم الولايات المتحدة الأميركية. تمّ اعتبارها نتيجة للنظام الرأسمالي العالمي الذي مارس دوراً استعمارياً في احتلال مناطق خارج حدوده في آسيا وأفريقيا، ومارس قهراً على شعوبها ونهباً لمواردها وإلحاق اقتصاداتها بالسوق الرأسمالية العالمية. لم يكن هذا التوصيف مجافياً للحقيقة في أي من المناطق التي خضعت للاحتلال.
ومن المعروف أن الأدب السوفياتي، بعد انتصار ثورة اكتوبر وحتى انهيار الاتحاد السوفياتي أنتج فكراً غزيراً حول الإمبريالية وشرورها. اليوم وفي ضوء المسلك الروسي، خصوصاً في سورية، يُطرح تساؤل، وهل كان الاتحاد السوفياتي نفسه بعيداً عن السلوك الإمبريالي؟ وهل يمكن وصف ممارسات ورثة النظام السوفياتي بغير التوصيف الإمبريالي الذي ألصق بالغرب؟
إذا كان التوصيف المقذع للإمبريالية الغربية ونمط علاقتها بالشعوب غير المنتمية اليها، بما هي علاقة قهر واستعباد، لا يحتاج الى كثير شرح وتفسير، إلا أن السياسة الروسية الراهنة، وقبلها سياسة الاتحاد السوفياتي تحتاجان الى التدقيق في ما إذا كان لفظ الإمبريالية ينطبق عليهما. سال حبر غزير حول دور الاتحاد السوفياتي في دعم الشعوب المتخلفة والخاضعة للاستعمار وتقديم المساعدة لتحريرها وتنميتها.
من الصعب إنكار الموقع الذي شكله الاتحاد السوفياتي في دعم حركات التحرر الوطني في العالم، وهذه من النقاط المضيئة في تاريخه. لكن السياسة السوفياتية لم تخل من قهر واستعباد لشعوب كانت دولها مصنفة داخل المعسكر الاشتراكي، فمارست القومية الروسية دور القوة العظمى، وفرضت لغتها وسياستها وسعت الى محو خصوصيات قومية وثقافية، ومارست عمليات تهجير ديموغرافي وإحلال شعوب مكان شعوب، ونكلت بالمعارضات وأبدعت في الاضطهاد والإعدامات… لعل مشاهد قمع انتفاضة هنغاريا وسحقها بالدبابات عام 1956، وإجهاض ربيع براغ عام 1968 أيضاً بالدبابات، وبعدها احتلال أفغانستان عام 1979، مشاهد لا تزال طرية العود ولا تغيب عن الأذهان في الشكل والمضمون، بما يعزز القول بانعدام الاختلاف بشيء عن السياسات الإمبريالية الغربية تجاه الشعوب التي استعبدتها.
هذه النظرة الاسترجاعية تهدف الى الإضاءة على السياسة الروسية السائدة منذ سقوط الاتحاد السوفياتي وصولاً الى الزمن الراهن. تعتبر النخب الروسية الحاكمة الوريثة الشرعية للنظام السوفياتي، فغالبية القيادات الحاكمة كانت تحتل مواقع في السلطة زمن النظام السابق، وما تمارسه يبدو امتداداً لعقلية وفكر متأصلين من المراحل السابقة. بعد سقوط النظام السوفياتي، مرت روسيا في مرحلة من الفوضى والوهن أثّرا على موقعها الداخلي والخارجي، في وقت سعت الدول الغربية خصوصاً أميركا الى إذلالها من خلال فرض الانسحاب عليها من أفغانستان وتهميش دورها.
تصاعدت النزعة القومية الروسية جواباً عن هذا الوضع، واستعيد التراث القيصري ونموذجه بطرس الأكبر كمرشد في السياسة الروسية تجاه الخارج وكعامل أساسي في استعادة مجد روسيا وهيبتها. تخيّل الرئيس بوتين نفسه بطرس الأكبر وراح يتصرف على شاكلته في تكريس الاستبداد في الداخل وسحق الحركات الانفصالية، ثم في التوجه نحو اعتبار بلدان أخرى بمثابة المدى الحيوي لروسيا. هكذا سحق المعارضة في الشيشان ومسح العاصمة غروزني بالأرض عبر تدميرها بالكامل، وألحق جزيرة القرم بروسيا وفتح نزاعاً حول موقع أوكرانيا معتبراً إياها جزءاً من روسيا.
في السنوات الأولى لسقوط النظام السوفياتي، كانت النخب التي تولت السلطة مدركة ضعفها وعدم القدرة على استعادة موقع النظام السابق، خصوصاً أن النظام العالمي الذي بات أوحدَ بقيادة الولايات المتحدة يعيش مرحلة عربدة عالمية، بما لم يكن مسموحاً لقوة عظمى أخرى أن تتقدم الى الواجهة. لاحقاً، وخصوصاً مع ولاية أوباما المنكفئة والمتراخية، وجد فلاديمير بوتين أن الفرصة سانحة للتصعيد عالمياً ومحاولة استعادة مواقع نفوذ كانت روسيا خسرتها، ثم التوسع نحو مناطق استراتيجية بعيدة عن الأراضي الروسية. وجد ضالته في الأزمة السورية فقدم نفسه منقذاً للنظام، تحت حجة محاربة الإرهاب الإسلامي الذي يهدد المناطق الروسية نفسها.
منذ تدخلها في سورية، تمارس روسيا أبشع السياسات الاستعمارية التي عرفها العالم القديم. عبر سورية، تريد بناء نظام عالمي جديد موازٍ للغرب، فاستقدمت أحدث ما لديها من ترسانة عسكرية، وتسعى الى تدمير المدن خصوصاً مدينة حلب وتجعل منها شقيقة لمدينة غروزني. لا يبالي الرئيس الروسي بالشعب السوري وبحجم الضحايا، المهم لديه تحقيق انتصارات وسحق المعارضات السورية، مهما كان الثمن، في البشر والحجر. فهل من شك بعد الذي نراه من ممارسات روسية في جعلها موازية ومتطابقة مع السياسات الإمبريالية والاستعمارية التي عرفها التاريخ البشري؟