فيروز والفن الرحباني: ثروة لا أحد ولا حدث يستطيع أن يسلبها منا

 

nouhad hayek

نهاد الحايك

(شاعرة- لبنان) 

زمنَ الصبا، كنتُ أسمع كثيرين من حولي يقولون عن فيروز “اسمعوني ولا تشوفوني”! وكنت أستغرب وأزعل. تغريدي كان خارج سرب هؤلاء “الكثيرين”! فعندما كان التلفزيون يبث أغنية مصوَّرة لفيروز، كنت أتسمَّر أمام الشاشة، أتشرَّب صوتها وأتغذَّى بالفن الرحباني بكل حواسي، وأيضاً أُمَلّي نظري بوجهها وتعابيره. كنت مسحورة، ليس بروعة فنِّها فقط، بل أيضاً، نعم، بجمال وجهها! وكنتُ، خلافاً للآخرين، أقول عن فيروز “اسمعوني وشوفوني”. كنت آنذاك، ولا أزال طبعاً، أفرح برؤية جمالٍ لا يراه عامةُ الناس، حتى أنني كنت أتباهى بأنني أشبهها، أشبهها بملامح الوجه، لا بل وبالإسم أيضاً! 

وليس إلا بعد مرور سنوات عدة، حين بدأتُ أهتمُّ بالصحافة والكتابة والقضايا المتداولة في البلد، حتى اكتشفتُ أنني لم أكن الوحيدة في هذا السرب. واكتشفتُ خصوصاً الأسلوب البديع الذي عبَّر فيه الشاعر أنسي الحاج عن حبه لصوت فيروز، متخطياً الجميع، بكل ما أُوتِيَ من مشاعر وفلسفة وانبهار وعمق وثورة وجنون وعواصف وطوفان وشاعرية. وفي كل ما كتبَ تعبيرٌ عما كنت أودّ أن أقوله وعما لم أُدركه من أبعاد كامنة في اللاوعي المتلقّي لصوتها ولتركيبة الإبداع المباركة (شعراً ولحناً وصوتاً) التي شكلها الثالوث الرحباني. “صوت فيروز يضيف إلى الحياة. يضيف إليها من داخل ومن فوق. يجعلها، حين يُرمى فيها، لائقةً كمأساة نبيلة، نظيفة كحريق مقدس. يخرقها مثل شعاع البساطة والمجد.” (من مقال “فيروز: شعاع البساطة والمجد”، 30 أيار 1965، كلمات كلمات كلمات).

fayrouz

وعندما أصاب الوطن ما أصابه من نكبات، أصابت شظايا الحرب صورةَ الوطن التي تكوَّنت في وجداني بتأثير الثالوث الرحباني، كما بتأثيرعدد كبير من الشعراء والأصوات الأخرى وعلى رأسهم بالطبع سعيد عقل. ودخلت الصورة في غيبوبة الموت. هل كان كل ما غنت له وعنه خدعة؟ هل كانت كل الأعياد التي اجتذبونا إليها مجرد وهم؟ هل كان كل ذلك الخير والجمال والسحر سراباً؟ وبدأ الصراع للفصل بين الحقيقة البشعة الوقحة اللزجة التي نعيش فيها (أو بالأصح نموت فيها) والحلم/المثال/التخطي وكل ملامح الجمال التي تلقنّاها من الفن الرحباني الفيروزي. صراع بين السقوط والترقي.

وفي حالة الإحباط والخيبة وعدم تصديق ما آلت إليه حال الوطن، اكتشفتُ مذهولةً أنني لم أعد أريد الاستماع إلى تلك الأغاني والأعمال المسرحية الغنائية ولا قراءة تلك الأشعار التي تمجد الوطن وتتغنى به. نعم. أعترف بذلك. لم أستطع استيعاب التناقض الرهيب القاتل المدمِّر بين الصورتين. وقعتُ فريسةَ هذا التآكل لفترة طويلة، خِلتُ أنها لن تنتهي، وبدا لي أن هذا التآكل يقذفني بعيداً، حيث اللامبالاة والانفصال واللامعنى. ولكن تبيَّن لي بعد حين أن انتفاضتي لم تكن مطلقاً ضد الفن والشعر ولا ضد البراءة الرحبانية ولا ضد صوت فيروز وحضورها الطاغي وأكاد أقول المقدس في حياتي.

أثناء تلك الغيبوبة، فِكَرٌ أخرى عن الوطن والقيم والحياة والقدر ومعنى الوجود والخلاص كانت تختمر في بالي. كنت أمرُّ بمرحلة تفكيك وربط، تَـفَـلُّت وانصهار، حرق وصقل. فكفكتُ روابطي بظواهر كثيرة هي من الزوائل، ورسَّختُ في وجداني جواهر حقيقية هي الثوابت: فيروز والرحبانيان وسعيد عقل والشعر والموسيقى والفن والإبداع.

nouhad-hayek

أما الذين يتبجّحون بالقول إن صوت فيروز هو مجرَّد وعاء، أداة، وسيلة، لإيصال ما هو فعلاً إبداع، أي الشعر والموسيقى الرحبانية، هؤلاء أشفق عليهم لأنهم لم تحلّ عليهم النعمة، وأكتفي بالقول إنهم خارج السرب. فلن أكون أبلغ من أنسي الحاج في الرد عليهم، هو الذي وصفها بـ”شاعرة الصوت” وكتب عنها “أحبها بإرهاب”: “الرحبانيان شاعران كبيران وفنانان كبيران. ولكن ليس هذا فقط. حتى لو لم يُكتَب لها شعرٌ جميل، فإن صوتَها كفيلٌ بأن يجعل أيَّ كلام شعراً جميلاً، حتى لو لم يكن اللحن رائعاً، فإن صوتَها كفيلٌ بأن يجعل أيَّ لحن رائعاً. لأن صوتها هو الشعر، والموسيقى، والصوت. لأن صوتها هو “الأكثر” من الشعر والموسيقى والصوت.” (من مقال “أحبها بإرهاب”، 15 شباط 1970، كلمات كلمات كلمات).

ماذا أقول وأكتب في حضرة عشرات الصفحات بقلم أنسي الحاج؟ أعجز عن أن أكتب أجمل وأقوى وأصدق.

“كل هواء يظل أضيق من صوتها. كل تعبير يظل غير لائق بصوتها.”
“صوتها يطبع اللحن. الأغنية تصبح، حين تنشدها، “فيروزية”. كأن صوتها يلحن اللحن.”
“صوتها الذي أشتهيه أكثر مما أشتهي أن يطول عمري.”
“صوت فيروز هو انتقامي من كذبة الحياة كلها.”

وبعد، أتجرأ وأزيد: فيروز، أنت نعمة سماوية على أرضنا المليئة بؤساً وشراً. أنت والفن الرحباني الذي كرَّستِه وكرَّسَكِ ثروةٌ لنا لا يستطيع أحد أو حدث أن يسلبها منا. بك أصبحنا محصنين ضد التفاهة والانحطاط والإفلاس. وإذا كان لنا من مجد، فلأنك مررت بنا وستبقين بعدما يسرِّب الجميع. وإذا كان لنا من عزاء، فلأننا نحبك.

fairouz-111

اترك رد