إلى معلّمات لبنان ومعلّميه…
إيلي مارون خليل
(أديب وروائي وشاعر)
لأولى، بعد سبعٍ وأربعين دورة للأرض حول الشّمس، أجدُني لا أتحضّر، وبفرحٍ، للعودة إلى المدرسة! بل تَرَكَ الأمرُ، في نفسي، كآبة ومَرارة جاوَرتا اليأسَ.
ألأسبابُ؟
عديدة. فأنا تجاوزتُ الرّابعة والسّتّين! وإن كنتُ معافى: عقلًا وجسدًا. فالمدرسةُ، “مدرستي”، “سمحتْ” لي بـ”الاستراحة”! ومن دون صعوبة. كأنْ كانت تنتظر، وبشوق، الوصول إلى هذا اليوم.
لم تسأل “مدرستي” عن الكفاءة والضّمير المهنيّ والتّفاني و… ولا عن سنوات الخبرة، تعليمًا وتنسيقًا وتوجيهًا وإشرافًا وتأليفًا ورئاسة قسمٍ… ولم “تنتبه” لأمر أحسبُه هامًّا هو أنّني، طوال هذه السّبع والأربعين، لم أختلف مع أحد (في أيّ من المدارس الّتي درّستُ فيها وربّيتُ ووجّهتُ وأدرتُ…): إدارةً أو راهبةً أو راهبًا أو زميلة أو زميلًا أو تلميذة أو تلميذًا أو عاملة أو عاملًا… ليس لأنّهم مثاليّون في التّعاطي، بل لأنّي مثقَّف ومهذَّب وتربويٌّ وديبلوماسيّ… فلم أعدم وسيلة لتفادي المُشكِلات. وتجدر الإشارة إلى كوني لم أَطرد خارج الصّفّ، ولا في مرّة إحدى، تلميذة أو تلميذًا، وطوال عمري في المدارس، المدارس كلِّها!
ولم يكن الأمر، أمرُ “السَّماح” بـ”الاستراحة”، جديدًا. إنّه القانون. ولستُ أوّل مَن يحصُل الأمر معه، ولن أكون، طبعًا، الأخير. إنّه “السِّياق”!
عليك، يا أنا، القبول، ومن دون احتجاج. ولقد قبلتُ.
لكنّ ما يحزّ في النّفس والقلب، فيحفر فيهما جراحًا لا نهائيّة الأعماق، طريقةُ “السّماح” بهذه “الاستراحة”. ما هي هذه الطّريقة؟ هي الّتي تُشعِرُك، ومن فورك، ولو بتهذيب، بأنّك عنصرٌ غيرُ مرغوبٍ فيك في “المؤسّسة” الّتي أفنيتَ أهمّ جزء من حياتك تخدمها، في أثناء الدّوام، وفي خارجه. في أيّام العمل، وفي أيّام العُطَل. إلى حَدّ أنّها تكون تأكل من “لحم كتفيك” بنهم لا يشبع، لترتفع مِدماكًا فوق مِدماك، ومبنى إلى مبنى! ولا تعترف. فأنت، لديها، “أجير”! أليس هكذا في أوراق المعاملات الرّسميّة؟!
ويعنّ على بالك أن، أو ينمو، في قلبك والوِجدان، شوقٌ لتُلقي تحيّة محبّة وإعجاب، على مدرسة ساهمتَ في إعلاء شأنها، على كلّ مستوى، وعلى مدير أو مديرة، فترتديك برودة تهبط عليك من السّقف والحيطان والمكتب والكتب الّتي ملّت وجودَها الثّلجيّ، فما يقربها أحد، ولا يخطر لأحد أن يمدّ إليها يدًا ولا عينًا ولا قلبًا ولا فكرًا! تدخل كمَن لا يدخل! يبتسمون لك وعلى أفواههم سؤال: ما أتى يفعل هذا هنا؟! كأنّ الـ”هنا” يخصّهم وحدهم! لا ينتبهون أو لا يفقهون! غدًا، يُصبح هذا الـ”هنا” يخصّ أخرى أو آخر أو آخرين..!
ومن ثمّ، فأنت تُصبِحُ، حين يتفجّر فيك اشتياقٌ، وتمرّ لتزور الزّميلات والزّملاء، بعد “الإدارة”، ضيفًا ثقيلًا. ما له، فلان، هنا بعد؟ أمّا إن كنتَ محظوظًا و”محترَمًا”، فيبتسمون لك، وما إن تستدير لتعود، حتّى تُطعَن بـ”عبسة” وهزء وسُخر!
وتنظر إلى زميلاتك والزّملاء السّابقات والسّابقين، وتأسف، سلَفًا، لمصيرهم. ألسّبب؟ إنّهم ينسونك وسريعًا، فما أحد “يُمَرْحِبُكَ” هاتفيًّا، فكيف “يُشرّفك” بزيارة! وطبعًا أنت تسامح وتغفر خصوصًا لمَن، من بينهم، “طعنك”! مع أنّك، أنت، سبب وجوده في هذي المؤسَّسة “العريقة” و”المحترَمة”! فكم دافعت عنه، وكم ساندته، وكم قدّمت إليه النُّصح والإرشاد… و”الأنكى”؟ أنّه يعرف! ويعرف أنّك سبب بقائه، هنا! ومن بعد؟ سيحدث لهم ما حدث لك! سـ”يُسمَح” لهم بـ”الاستراحة”.
وتمرّ… إلى جوار الصُّفوف. لا يزال صوتُك الخفيض الوافرُ الحنان، الصّادق المحبّة، ينقل المعرفة بالأسلوب الأكثر رقيًّا والأصَحّ تربويًّا. فأنت لا تفصل بين ثقافتك وشخصيّتك حيثما أنت. يحبّك تلامذتُك كلُّهم؟ هذا لأنّهم يعرفون حبَّك وتضحياتِك، ولا ينسون محاوراتِك التّربويّة التّثقيفيّة التّوجيهيّة… ويعرفون قيمتها أكثر، حين يواجهون الحياة!
وتُجاور مكتبَك. عذرًا! ما كان مكتبك. لا تزال فيه رائحةُ مَراجعِك وكتبِك، وأريج عطرِك، وصدى صوتِك مرشِدًا وموجّهًا ومنبّهًا، إن لزم الأمر، لكنْ بمسؤوليّة ناضجة واعية، وذوق نبيلٍ أصيل، وكثيرًا ما كان يلزم. لكنّك، بعد ذلك، تلتزم الصّمت، فلا تثرثر ولا تُشَهّر… ألكرامةُ قيمة بها تعمل! ألنُّبْل والأصالة بعض صفاتِك.
وتتوالد الذّكريات. قرّرتَ تُصدر كتابًا سنويًّا يساهم فيه أعضاء قسمِك! فرحَ البعض. فوجئ البعض. خاف البعض. تناسى آخرون. ولن تُسَمّي! لكنّك تابعتَهم بلا هدنة. فظهر ما وجب أن يظهر. ولن توضِح. لكنّ الكتابَ ظهر، وكان جميلًا. وهنا أيضًا، فرحَ البعض، وخجل البعض، على أن يكون عرف… ما يجبُ أن!.. ألمؤسف؟! أنّ “مشروعَـ”كَ، هذا، انطفأَ بعدك! هل لأنّ… منطفئٌ ويابس؟!
وتجوز قرب المسرح. كم عملتَ وكم قدّمت وكم دفعت معلّمات قسمك ومعلّميه، ليتشجّعوا ويكتشفوا ما يختزنون من مواهب وقدرات… كم كان البعض خجولًا، والبعض مغترًّا، والبعض مدَّعِيًا… ولن تُسَمّي! ما إلّا معلِّمة مُشرقة اُحرِجت فـ”هشلت”، ومعلِّم، هو الآخر مشرِق، لا يزال يتعالى على المعاناة!
… ولن تسترسل، يا رجل!
تعرف، أنت! فما جرى معك، جرى مع سابقين، وسيجري مع لاحقين، وإن على تَمَيُّز! فأنت تعرف، تمامًا، أنّ “رسالةَ” التّربية والتّعليم، هي المهنة الّتي “تأكل” أصحابَها، وتغدر بصحّتهم، بأعمارهم! ولا تُكَرَّم، لا من إدارة، ولا من قسم ترأّستَه، ولو عَبْرَ احتفال بسيط تُقدَّم إليك، خلاله، درعٌ… مجرَّد ذكرى تصل ماضيًا بآتٍ! مع أنّ وجودك السّابق المميَّز هنا، أعطى المؤسّسة قيمة مُضافة. فأنت لست نكرة، يا رجل!
هي الحياة… “تصطفل”! لن تقودَك نحو اليأس! إنّ لك قلبًا في هذه “المؤسَّسة” يقوم، ومن أعماق قلبه، بـ”الرّسالة”، وإنّ لك فيها صدًى عجبًا يستمرّ، وإنّ لك فيها، بعدُ، حفيدَين ينموان: نعمةً وقامةً… إنّه تأصيلُ الأُصولِ، تَواصُل الأجيال!
ولا تندمُ!
تغفرُ، تسامح!
أيلول 2016
elie.khalil@hotmail.com
www.eliemarounkhalil.com
تحيات من زميل متقاعد
لقد أحسنت التوصيف، وهو من البراعات الكثيرة التي تتقنها.
أستغرب استغرابك ما جرى وما يجري!
يكفيك أنّك مرتاح الضمير، وأنّك ، وبالإذن من أبي ماضي،”لم تزل حيًّا”.
هوّن عليك، وتذكّر جوزف حرب الذي قال:
ما قائد مرّ في يوم بمقبرة
إلّا وكلّ شهيد صاح: أين دمي؟
أَلا بُورِكَ قَلَمُك، وبُورِكَت أَنَفَتُك، وبُورِكَ إِحساسُكَ المُرهَفُ، إِحساسُ الشَّاعِرِ الحَقِّ الَّذي تَقذِفُهُ الحياةُ مِن خَيبَةٍ إلى أُختِها، لا تَقَصُّدًا، بل لأَنَّها هكذا، ورَهافَةُ الشَّاعِرِ تَلتَقِطُ ما يَمُرُّ بهِ آخَرُونَ غُفًّلًا.
حَسبُكَ أَنَّ يَراعَتَكَ تَزرَعُ البَدْعَ الباقِيَ سِندِيانًا تُلاعِبُهُ الرِّيحُ، حِينَ يَمُرُّ الكَثِيرُونَ كَالهَشِيمِ المَذْرُور.
ويَطِيبُ لِي، في مَعرِضِ أَساكَ الكاوِي أَن أُحَيِّيكَ بِشِعرٍ مِنِّي قُلتُهُ ذاتَ مَوقِف:
يَا أَخِي، والعُمرُ ماضٍ في الهُرُوبْ، والصِّبا الرَّاحِلُ هَيهاتَ يَؤُوبْ
نَحنُ أَنسَامٌ على تَحنانِها سَكِرَ الرَّوضُ، وغَنَّى العَندَلِيبْ
لَيتَ شِعرِي إِذْ رَمانا الدَّهرُ في كَفَّةِ التَّارِيخِ لَم تَرشَح عُيُوبْ
نَحنُ أَذنَبنا، ولكِنْ ذَنبُنا أَبيَضُ الوَشمَةِ إِن قِيسَتْ ذُنُوبْ
حَسبُنا أَنَّا عَبَرنا فإِذا، خَلفَنا، تُومِئُ بِالشَّوقِ الدُّرُوبْ!
مُورِيس وَدِيع النَجَّار
أشكر للصّديقين شربل وموريس قراءتهما والاهتمام. وإنّما الأسى أسانا جميعًا..! هي كلمة همستُ بها و… مشيتُ!