“هذا نحن هذا لبنان هذه مغدوشة
هذا جنوب لبنان… لكم أن تفخروا بذلك”
كلود أبو شقرا
“يتمنى قداسة البابا أن يصبح مقام سيدة المنطرة في مغدوشة، مركزاً في خدمة ثقافة التلاقي والسلام من خلال المساهمة في بناء جسور تواصل بين الثقافات والأديان”. بهذه الكلمات حدّد قداسة البابا فرنسيس دور مقام سيدة المنطرة الصامد أبداً في وجه كل محاولات إلغائه، لا سيما خلال الحرب التي عصفت بلبنان، وما رافقها من تهجير لأبناء المنطقة من بيوتهم التي تهدمت وأراضيهم، لكنهم سرعان ما عادوا بعدما وضعت الحرب أوزارها وأعادوا بناء بيوتهم وتعايشوا مع محيطهم المسلم.
يقعُ مقامُ سيّدة المنطرة على مشارفِ بلدة مغدوشة، في جنوب لبنان، اقــتــرن اســـم مــغــدوشــة باسم مــريــم الــــعــــذراﺀ فــعــرفــت بــبــلــدة، العذراﺀ وعرفت المغارة الواقعة على تلّة تشرفُ على الساحل الجنوبي لمدينة صيدا، بـ “سيدة المنظرة في مغدوشة”، وهو بعهدةِ طائفةِ الروم الكاثوليك منذ القرن الثامن عشر.
روحانية ومعجزات
“هو” يسير بقامته الممشوقة وهالة النور التي تظلل وجهه، في القرى والبلدات مبشراً بكلمة الله، و”هي”، تلحق به من منطقة إلى منطقة وتنتظره كلما اجتاحها الشوق لرؤيته. وفي أحد الأيام أدركت أن ابنها يبشر في منطقة صيدا فقصدت المكان وجلست في مكان معزول عن المدينة، لأن التقاليد كانت تفرض على المرأة اليهودية الا تختلط بسهولة بمجتمع الرجال الوثنيين، تنتظر لقاءه في بقعة من الأرض سميت في ما بعد المنطرة، فتكرست مساحة لقاء يسوع بأمه مريم، تماماً كما التقيا في قانا… هذه الأرض اللبنانية وطأتها أقدام يسوع ومريم، وحفظت في أعماقها فصولاً من بشارة السيد المسيح تردد معجزاته وتعاليمه وهي امتداد لمسيرته في بيت لحم والقدس…
مرت السنوات والأجيال جيلا بعد جيل، وبقي المكان ينبض بحضور قدسي سامٍ، يشهد تواضع إله وأم إله، إلى أن حلّ أحد الأيام من عام 1721، ففيما كان أحد الرعاة يرافق قطيعه إلى هضبة مغدوشة سقط جدي في حفرة عميقة، وعندما نزل الراعي إلى الحفرة لإنقاذ الجدي اكتشف مغارة فيها مذبح صخري وعليه صورة للعذراء مريم، تبيّن في ما بعد أنها تعود إلى بدايات ظهور المسيحية، ورجحت الكنيسة آنذاك أن تكون المغارة هي التي كانت تنتظر فيها السيدة العذراء ابنها يسوع.
مع انتقال ملكية المكان إلى كنيسة الروم الملكيين الكاثوليك، حوالى العام 1860، خضع للتجديد وكُرس مزاراً، أمّته وفود حاشدة من المؤمنين، وسجلت فيه شفاءات، فعرف بـ “مغارة سيدة المنطرة العجائبية”. وصلت أخبار المغارة العجائبية إلى أنحاء المنطقة، وتناهت إلى أسماع قتصل بريطانيا في صيدا جاك أبيلا، فزار المغارة وطلب شفاعة السيدة العذراء لشفائه من مرض عضال كان يعاني منه، فاستجيب طلبه وشفي، فما كان منه إلا أن بنى قناطر في مدخل المغارة عربون شكر للسيدة العذراء. وإلى جانبِ هذه المغارة الرئيسية، يقعُ تجويفٌ أصغر حجماً وعمقاً يُستعمل لمراسم العماد المقدس.
تطوير وتحديث
في النصف الأول من القرن العشرين، اضطلع المطران باسيليوس خوري بمهمة تطوير المزار، فشيد بالقرب من المقام برجاً يبلغُ إرتفاعه 28 متراً، في المكان الذي كان فيه برج صليبي قديم بناه الملك الفرنسي لويس التاسع واندثر لاحقاً. ويعلو البرجَ المعاصرَ تمثال برونزي للعذراء مريم تحمل طفلَها يسوع، من الطراز اللاتيني ومن صنع إيطالي. يبلغُ إرتفاعُ التمثال ثمانية أمتار ونصف، ويشرفُ بوضوح على الخطِّ الساحلي، انتهى العمل فيه عام 1963.
خلال الحرب اللبنانية، تعرض التمثال للتشويه بفعل القذائف التي سقطتت على المنطقة، واستهدفته، ومع انتهاء الحرب باشر المطران جورج كويتر ترميم المقام، انطلاقاً من الكابيلا في أسفل البرج حيث وضعت لوحة زيتية تمثّل العذراء الجالسة عند مدخل المغارة، وفي الأسفل لوحة للسيد المسيح يظهر فيها وهو يضع يده على رأس ابنة الكنعانية ( مرقس ٧/ ٢٤ ؛ متى١٥/ ٢١)، وفي الجانب الأيمن، صورة الراعي الذي اكتشف المغارة وهو يحمل على كتفيه الجدي الذي سقط فيها .
عام 1999أنشئ في قطعة الأرض المحيطة بالمقام “درب المزار” ، يحوي عشر محطّات موزعة على مسافة 300 متر، تتضمن كل محطة مشهداً منحوتاً على لوحة حجرية يمثل أحد احداث الكتاب المقدس التي جرت في لبنان. في ما بعد، أضيفت محطتان: الأولى تتضمن رسوم قديسين لبنانيين معاصرين ، تأكيدا على أنّ لبنان هو “أرض مقدسة وأرض قداسة وقديسين” ، كما قال البابا القديس يوحنا بولس الثاني اثناء زيارته لبنان في ايار 1997 . الثانية، تتضمن خريطة لبنان وصورة البابا يوحنا بولس الثاني مع كلمته الشهيرة: “لبنان هو أكثر من بلد، لبنان رسالة”.
في السنوات الأخيرة بوشر بناء بازيليك تتسع لـ1200 مقعد، هي بمثابة تحفة جميلة بموقعها وهندستها وأيقوناتها المصنوعة من الموزاييك في إيطاليا . وفي أسفل البازيليك ثلاثة طوابق تضم موتيلاً ومكاتب وقاعات مجهزة لخدمة الزوار، ممن يقصدون مزار “سيدة المنطرة” من لبنان ومن مختلف البلدان المجاورة ومن كل أنحاء العالم، زُينَت واجهتُها الغربية بفسيفساءِ حديثة تُمثلُ بشارةَ العذراء.
لعيد ميلاد السيدة العذراء (8 أيلول)، طابع خاص في سيدة المنطرة،كما في بلدة مغدوشة التي يقام فيها تراث تقليدي، معروف بـ”كروم الشمس”، يدوم أياماً ويقصده الناس من الأنحاء كافة. تميز هذا العام بخصوصية، بعد وضع مزار سيدة المنطرة على خريطة السياحة الدينية العالمية، فأقيمت صلوات وقداديس بالطقوس البيزنطية والمارونية واللاتينية، أبرزها عشية العيد ونهار العيد. وفي كنيسة السيدة وسط مغدوشة ترأس راعي أبرشية صيدا ودير القمر للروم الكاثوليك المطران إيلي الحداد قداساً إلهياً، انطلقت بعده مسيرة احتفالية، جابت شوارع البلدة، ورفع مشاركون في المسيرة تمثالاً نحت خصيصاً للعذراء سيدة المنطرة. كذلك تجمعت حشود في باحات مزار السيدة، عند المدخل الغربي لمغدوشة المطل على ساحل صيدا – الزهراني، وهي تصلي وسط ترانيم ومشهدية تأملية. وعند منتصف الليل، أضيئت سماء المزار، وبازيليك مغدوشة بالأنوار الساطعة وبالأسهم النارية.
أكبر تجمع مسيحي
مغدوشة، التي تضم اكبر تجمّع مسيحي في منطقة صيدا، ينتمي أهلها (يبلغ عددهم 8 آلاف نسمة موزعين على 15 عائلة) الى طائفة الروم الملكيين الكاثوليك، وهي بلدة قديمة، ترقى الى عمر الإنسان في لبنان الذي حفر بيته في صخورها، ولا تزال آثار خمس من هذه المغاور والكهوف واضحة لغاية اليوم في مشارف مغدوشة، أبرزها مغارة “سيدة المنطرة”. تمتاز أكمة مغدوشة بموقع جميل فريد: ينبسط البحر أمامها غــربــا، ويــرنــو اليها الجبل شرقا، وشمالا تبدو قرى ومدن متناثرة في اقليمي التفاح والخروب وصولا الى العاصمة بيروت، وجنوباً تطل على قرى الجنوب.
في عهد الامير فخر الدين المعني الثاني، توافد الى مغدوشة من باتوا اهلها الــيــوم، بتشجيع مــن الــمــطــران افتيموس الصيفي الذي سيم مطرانا على ابرشية صيدا وصــور سنة 1683.
يورد أنيس فريحة فـي كتابة “أسماﺀ المدن والقرى اللبنانية” أن كلمة “مغدوشة” سريانية الأصل، مشتقة من “مكدسون” (جامعو الغلال أكداساً وعرمات). والارجــــح أن اســم “مــغــدوشــة” محرف من جذر “قدش” السرياني (القاف فـــي الــلــغــات الــشــرقــيــة الــقــديــمــة تــنــقــلــب عإـلــى غــيــن، والسين الى شين) وتاليا “قدش” (ومشتقاتها قاديشو)، قاديشات، مــقــدوشــو، … السريانية تعني قدس، وقدوس ومقدسة بالعربية، فيكون اسم مغدوشة مشتقا من جذر “قدس” وتعني “مقدسة”.
عندما وفد اهل مغدوشة اليها، انكبّوا على زراعــة القمح وطحنه (لا تــزال آثــار خمسة طواحين باقية حتى الــيــوم)، ثم رزعــوا الزيتون وحــوّلــوه زيــتــاً في معاصرهم البدائية (ثلاث لا تزال منها اثنتان حتى اليوم)، ثم زرعوا الكرمة وأصّــلــوهــا وجلبوا العنب الحيفاوي (من فلسطين) فاشتهر بــــ “عـــنـــب مـــغـــدوشـــة” وصــنّــعــوه واستخرجوا منه كحولاً وخموراً، ثم زرعــوا النارنج (ليمون البوسفير) وأجــــادوا صنعه، واشتهروا بماﺀ الزهر المغدوشي لبراعة تقطيره وحسن استخراجه.
كذلك تتميز مغدوشة بصناعات عدة من بينها: الخياطة، الــنــجــارة، الـــحـــدادة، الإسكافة والنحت الحجري، وفنّ البناﺀ (اخذوه عن بنائين من آل الخرياطي في جون ساعدوهم على بناﺀ كنيستهم سنة 1895)، فشيدوا أبنية حجرية منحوتة ومــصــقــولــة فــي لــبــنــان وســوريــة وفلسطين. وأهل مغدوشة أبناﺀ علم (أول مستشفى في صيدا مورست فيه الجراحة العامة كانت على يد طبيب من مغدوشة) وذوو معرفة انــتــشــروا في الجنوب يلقنّون العلم وينشرون الــمــعــرفــة…
مريم كانت هنا
الاحتفال بإدراج مقام سيدة المنطرة على خريطة السياحة الدينية العالمية نظمته وزارة السياحة برعاية وزير السياحة ميشال فرعون وحضوره، بالتعاون مع “منظمة السياحة العالمية” وجمعية “على خطى المسيح في جنوب لبنان”، وبدعوة من راعي أبرشية صيدا ودير القمر للروم الملكيين الكاثوليك المطران ايلي حداد، وذلك في اطار انشطة إطلاق برنامج السياحة الدينية في دول المشرق وبرنامج “المنتدى السياحي اللبناني الدولي”.
في المناسبة ألقى الأمين العام لـ”منظمة السياحة العالمية” الدكتور طالب الرفاعي كلمة نقل فيها “تحيات أسرة الأمم المتحدة وأسرة السياحة الدولية التي تعتز وتتشرف بأن تكون معكم في هذا المساء الطيب في هذا المكان المقدس”، شاكرا الوزير فرعون “الذي لولاه لما كنا هنا، لقد وجه لنا الدعوة وبدأ بالفكرة”.
أضاف: “يأخذ الاحتفال اليوم معنى خاصاً، السيدة المقدسة مريم العذراء كانت هنا، كانت تنتظر السيد المسيح، وفي هذا الانتظار درس كبير، فهو يمثل الصبر على كل ما هو صعب في هذا العالم، يكتسب معنى خاصا بأننا من هنا من لبنان نطلق رسالة واضحة بأننا قد اصبحنا موقعا سياحيا عالميا”، معتبرا ان السياحة في هذه الأيام ليست فقط صناعة هامة تدر أرباحا وتوظف مئات الملايين من البشر، بل “انها رسالة سلام ورسالة محبة كما هي رسالة السيد المسيح والسيدة العذراء. إننا هنا لأن اهمية هذا الحدث يكمن في اننا نطلقه هنا من لبنان هذا البلد الطيب، هذا البلد المعطاء. قلما نرى في العالم مشهدا كهذا، مشهدا حقيقيا، اين في هذا العالم نسمع كلمات كالتي سمعناها من سيادة المطران ايلي حداد، اشكرك شكرا جزيلا على كل ما قلته انت سيدنا بكل معنى الكلمة سيد الجميع”.
وختم: “في هذا الزمن الذي اصبح فيه للفرح اعداء وللبسمة اعداء وللسعادة اعداء، يكون هذا المكان وهذا الاحتفال الرد الوحيد من المكان الصحيح في الزمان الصحيح، بأننا هنا لاننا لا يمكن لنا ان نفقد الامل، ولأن السياحة، كما أرادت لها هذه الحياة، ان تكون صناعة الامل وصناعة البسمة، ولأن هذا ما اراده لنا السيد المسيح، أن نستمتع بهذا العالم وأن نعيش بمحبة جميعا. لهذا السبب يكتسب وجودنا في هذا المكان معنى كبيراً، فهو رد على كل من يحاول أن يصفنا بغير ما نحن فيه، هذا نحن، هذا لبنان، هذه مغدوشة، هذا جنوب لبنان، لكم ان تفخروا بذلك”.