جـودت هوشيار
(كاتب وباحث- بغداد)
احتفلت روسيا رسمياً هذا العام – الذي سمّته بعام ماندلشتام – بحلول الذكرى (125) لميلاد واحد من أبرز رواد الحداثة الشعرية في روسيا والعالم، وهو أوسيب ماندلشتام، الذي ولد في 15/1/1891، وتوفي في أحد المعتقلات الستالينية الرهيبة في أقاصي سيبيريا في 27/12/1938، في ظروف غامضة. وما يزال سبب وفاته ومكان دفنه مجهولاً، رغم الاستقصاءات الميدانية التي قام بها عدد كبير من الباحثين المتخصصين في حياة وأدب هذا الشاعر الذي تحول الى اسطورة، حتى قبل اعتقاله ووفاته..
شملت الاحتفالات إقامة المهرجانات، وإزاحة الستار عن تمثال جديد له في موسكو وإطلاق اسمه على أحد شوارعها، والقاء محاضرات عن حياته التراجيدية، وشعره الرائع، وإنتاج فيلم وثائقي عنه، واجراء لقاءات في القنوات التلفزيونية مع العديد من الشعراء والكتاب البارزين عن نتاجاته وتأثيره في جيله والأجيال الأدبية اللاحقة، وإعادة إصدار مؤلفاته الكاملة، ونشر كتب عن سيرته، ومذكرات معاصريه من الأدباء عنه، وغير ذلك من الفعاليات الثقافية، التي استمرت لأشهرعديدة.
كانت حياة ماندلشتام عذاباً دائماً وقلقاً مقيماً، فهو لم يمتلك مسكناً مستقلا، بل تنقل بين مساكن جماعية كثيرة، تعج بالوشاة، في كل من موسكو وبطرسبورغ وفورونيج، وعانى من شظف العيش، لعدم وجود مورد ثابت له، يكفي لسد رمقه ورمق زوجته. كان انساناً رقيق المشاعر، ولم يكن بوسعه أن ينظر الى ما يجري حوله بهدؤ ولامبالاة. ويتألم لما يعانيه هو وشعبه من حياة بائسة، ومن إنتهاك لكرامة الإنسان، وقمع لحرية التعبير، ولكنه كان يتظاهر بالمرح، من أجل عدم الكشف عن رؤيته التراجيدية للواقع السوفياتي، وحجبها عن الجميع، وخاصة عن نفسه، لكي لا تكون الحياة مرعبة جداً.
شعر ماندلشتام يتسم بطابع انتقادي مضمر، زاخر بالرموز، التي تتألق معانيها العميقة ضمنياً..
انعكس في شعره عصر بكامله: زوال الحكم القيصري، الثورة، والزمن الستاليني. وتعرض كغيره من المبدعين الأحرار الى التجويع والمضايقات، وافتراءات المنافقين من الكتّاب الرسميين
نفي واعتقال وتعذيب:
في تشرين الثاني 1933 كتب ماندلشتام واحدة من اشهر قصائد القرن العشرين تحت عنوان “جبلي الكرملين” ، وهي قصيدة تهكمية يسخر فيها من الطاغية ستالين. لم يحاول الشاعر قط انكار نسبة القصيدة اليه، بل قرأها على جمع من الأصدقاء، والمعارف من الكتاب والشعراء، يقال إن عددهم كان 18 شخصاً. وبعد عدة أيام، كان ماندلشتام يتجول مع صديقه الشاعر بوريس باسترناك في شوارع موسكو وعندما وصلا الى شارع مهجور في الضاحية قرأ ماندلشتام القصيدة ذاتها على مسامع باسترناك، الذي قال بعد أن استمع الى القصيدة جيداًً: ” هذه ليست حقيقة ادبية، بل عمل انتحاري، لا أوافق عليه، ولا أريد أن اشارك فيه. أنت لم تقرأ عليّ شيئا، وأنا لم اسمع شيئاً، وأرجو منك أن لا تقرأ هذه القصيدة لأي شخص آخر”. وبطبيعة الحال كان ماندلشتام يدرك جيدا خطورة ما اقدم عليه، لذا احتاط مسبقاً لاحتمال اعتقاله، وحفظ القصيدة عن ظهر قلب، كما حفظتها زوجته ناديجدا، فقد كان الاعتقال في عهد (أبو الشعوب) يشمل ليس (المتهم) فحسب، بل زوجته أيضاً، لذا طلبت ناديجدا من صديقة موثوقة حفظ القصيدة أيضاً. وبعد ذلك مزق ماندلشتام الورقة التي دون فيها القصيدة..
ويبدو أن البعض وشى به لدى الأمن السري. ومن الصعب – رغم نشر العديد من البحوث والمذكرات الشخصية حول هذا الموضوع في السنوات الاخيرة – معرفة هذا البعض، فقد كان ثمة عدد كبير من المشتبه بهم المحتملين. كان الموت يقترب منه حثيثاً. وفي ليلة 13 على 14 أيار 1934، اقتحمت ثلة من عناصر الـ(غولاغ) شقته والقوا القبض عليه، ورغم التفتيش الدقيق لم يعثروا على نص القصيدة.
وقد حاول كل من باسترناك واخماتوفا التوسط لدى المسؤولين لأنقاذه من الإعدام أو تخفيف الحكم عليه ولكن محاولتهما لم تكلل بالنجاح. كان القيادي البارز في الحزب نيكولاي بوخارين يحترم ماندلشتام ومعجباً بشعره. فكتب رسالة الى ستالين يشرح فيها الأزمة النفسية التي يمر بها الشاعر، ويناشده أخذ حالته بنظر الاعتبار. وكان جواب ستالين عجيباً، فقد قد كتب هامشاً على الرسالة، لم يوجه الى شخص بعينه، يقول فيه: “من تجرأ على اعتقال ماندلشتام، يا للقباحة”. ولكن غالب الظن أن ستالين قرر بينه وبين نفسه تأجيل تصفية ماندلشتام، لسببين:
أولهما – أنه رأى في القصيدة اعترافاً بسطوته وسلطاته المطلقة، ودليلاً على الخضوع .
الـ”جبلي” الذي خرج من قاع المجتمع ووصل الى قمة السلطة في دولة عظمى، اعتبر الخوف الذي عبر عنه الشاعر بالقول: “نعيش دون أن نشعر ببلدنا تحت أقدامنا” اطراء له، وبرهاناً على نجاحه في اللعب على وتيرة الرعب. وكذلك استحسن ستالين الوصف الدقيق لقدراته الشمولية، ومن المحتمل ان التصوير الكاريكاتيري للمحيطين به نال اعجابه.
وثانيهما: لأن المؤتمر التأسيسي لاتحاد الكتاب السوفييت كان على الأبواب ، وقد دعي لحضوره عدد من أشهر الأدباء الأوروبيين. وأراد ستالين أن لا يبدو قاسياً، بل مسامحاً كريماً أمام الأجانب. حيث صدر حكم على الشاعر بالنفي ثلاث سنوات الى مدينة جيردين. وقد رافقته زوجته ناديجدا الى منفاه الإجباري. أيضاً، ولكنها لم تسكت أو تستسلم، بل كتبت رسائل الى كبار المسؤولين وبضمنهم بيريا، وزير المخابرات، تطلب فيها السماح لماندلشتام باختيار منفاه في احدى مدن الأقاليم. وقد أثمرت جهود نيكولاي بوخارين إلى السماح للشاعر باختيار منفاه في احدى مدن الأقاليم، ما عدا 12 مدينة كبيرة بضمنها، موسكو ولينينغراد وكييف. فاختار مدينة فورونيج. كانا يعيشان في فقر مدقع بعد انقطاع مورد رزقه، فلجأ الشاعر الى اصدقائه القدامى – الذين تخلى معظمهم عنه – ولم بستطع الحصول منهم، الا على النزر اليسير من المال. هنا كتب ماندلشتام سلسلة قصائده الخالدة المعنونة “دفاتر فورونيج”.
بعد انتهاء مدة نفيه في مايو 1937، حصل على إذن بمغادرة فورونيج ، هو وزوجته عائدين لفترة وجيزة إلى موسكو. أما اتحاد الكتّاب السوفييت الذي كان ماندلشتام عضواً فيه ، فقد قام رئيس الاتحاد ستافسكي بإرسال كتاب تحريضي ضد الشاعر الى وزير الداخلية (يزوف )، طالباً معاقبة ماندلشتام، لأن قصائده “فاحشة وتشهيرية” وقال في الكتاب إن ماندلشتام قام بزيارة موسكو، وسكن لدي اصدقائه، خلافا لضوابط نفيه الى فورونيج، وأنه يتظاهر بالفقر والمرض محاولا التأثير في الراي العام، وأن العناصر المناهضة للسلطة في الوسط الأدبي استغلوا ماندلشتام في اغراضهم الدعائية المعادية وجعلوا منه ضحية ونظموا حملات جمع المال له بين الكتاب. وإن كلا من جوزيف براوت وفالنتين كاتاييف يدافعان عن ماندلشتام. انتظر (يزوف) شهراً كاملاً قبل أن يتخذ اجراءاً بحق الشاعر، ويبدو أنه أراد معرفة رأي ستالين أولاً.
في اوائل شهر آذار عام 1938، انتقل الزوجان إلى منتجع صحي للنقابات في ضواحي موسكو . هناك في ليلة 1 /2 أيار 1938 اعتقل ماندلشتام للمرة الثانية، واقتيد إلى سجن (بوتيرسكايا ) في موسكو، وهناك عذب تعذيبأً وحشيا وحرم من الطعام والنوم. وفي الثاني من آب 1938 حكم عليه بالسجن خمس سنوات مع الأشغال الشاقة. وبعد اسبوع واحد ، تم ترحيله الى مخيم الاعتقال المؤقت في فلاديفوستوك، في الطريق الى احد المعتقلات في سيبيريا. وهنا كتب الشاعر آخر رسالة الى أهله، يقول فيها إن صحته قد تردت كثيراً، وأصابه الهزال الى درجة يصعب التعرف عليه.
الفرضيات حول ايامه الاخيرة في المعتقل كثيرة،ولعل أقربها الى الحقيقة، هي أنه توفى في 27 كانون الأول 1938 في المخيم المؤقت، وأن جثته مع جثث الموتى الآخرين، بقيت في العراء حتى ربيع 1939، ثم تم دفنهم في مقبرة جماعية. كان الإعتقاد السائد أن الشاعر توفي بمرض التيفوئيد، ولكن الوثائق الرسمية التي كشف عنها النقاب في السنوات الاخيرة ومنها شهادة وفاته، تؤكد أنه توفي بسبب نوبة قلبية في 27 كانون الأول 1938.
قصيدة “جبلي الكرملين”:
شعر ماندلشتام عصي على الترجمة، فالمعنى عنده لا يظهر على السطح، بقدر ما هو وراء الكلمات , لذا وقع العديد من الشعراء الأجانب، في اخطاء عديدة،عند ترجمة هذه القصيدة من لغة وسيطة في معظم الأحيان الى لغاتهم، واخذوا بالمعانى الظاهرة للكلمات، واضافوا الى القصيدة المترجمة ما هو غريب عنها من كلمات او عبارات. لذا سنحاول تقديم ترجمتنا لهذه القصيدة من اللغة الروسية مباشرة. ومن ثمّ تصحيح الأخطاء التي وقع فيها أولئك المترجمون.
نعيش دون أن نشعر ببلدنا تحت أقدامنا
أصواتنا لا تسمع على بعد عشر خطوات
في أي حديث عابر مهما ابتسر
جبلي الكرملين لا بد أن يذكر
أصابعه الغليظة دهنية مثل الديدان
كلماته فصيحة وثقيلة كعيار الميزان
وشارباه الصرصوريان يضحكان
جزمته اللامعة تخطف البصر
ومن حوله رعاع من القادة بأعناق نحيلة
وهو يتلاعب بخدمات أنصاف الرجال
واحد يصفر، وآخر يموء، وثالث ينوح
هو وحده يقصف ويجرح
كما الحدوة يقذف بوجوههم مرسوما اثر مرسوم
يصيب هذا في الفخذ، وذاك في الجبين
وآخر في الحاجب، ورابع في العين
كل اعدام عنده – مالينا
وصدر الأوسيتي جد عريض.
جاءت القصيدة كرد فعل على الواقع السوفييتي المرعب في فترة الثلاثينات. ماندلشتام يصف بدقة ملامح ذلك الزمن. دولة كبيرة تفضل الصمت:” كلامنا لا يسمع على بعد عشر خطوات”. كانت كل كلمة لا تعجب السلطة، يمكن أن تؤدي الى الإعتقال أو الأعدام . مناخ الرعب هيمن على الإتحاد السوفييتي. في قصيدة ” الجبلي” رسم الشاعر بورتريه ستالين بدقة، ولم يذكر اسمه بشكل صريح، بل اشار اليه بـ ” جبلي الكرملين”.
الأصابع الغليظة للطاغية تقارن بالديدان، وشارباه بالصراصير. ويلمح ماندلشتام الى ماضي “أبو الشعوب” بكلمة (مالينا) الدارجة المستخدمة في عالم الجريمة المنظمة، والشاعر يشير هنا الى المرات الست التي حكم فيها على ستالين، وكانت خمس منها بسبب السرقة والسطو، ومرة واحدة فقط بسبب نشاطه السياسي. وليس من قبيل المصادفة الإشارة الى صدر الأوسيتي العريض، لأن ستالين ولد في بلدة غوري، في جنوب اوسيتيا. وصور الشاعر، انصاف البشر، من القادة الرعاع غير القادرين على الكلام بحضوره، وهو يلعب بخدماتهم: “واحد يصفر، وآخر يموء، وثالث ينوح.
ملاحظات على الترجمات الغربية للقصيدة:
أشرنا آنفاً أن قصيدة “جبلي الكرملين” ترجمت الى أهم لغات العالم، ولكن لدى مراجعتنا للترجمات الإنجليزية، تبين لنا أن العديد منها، لا يعبر عن روح النص الروسي. فقد ترجمت كلمة (مالينا) الروسية الى (التوت) وهي ترجمة صحيحة لغوياً، ولكنها خاطئة تماما في هذه القصيدة. لأن الشاعر لا يقصد بكلمة (مالينا) التوت، بل الماضي الإجرامي للطاغية. ولم يكتشف هؤلاء المترجمون المعنى الحقيقي للفظة (مالينا) وبعضهم أضاف اليها كلمة الأحمر. فقد جاء البيت ما قبل الأخير في ترجمة الشاعر الأميركي المعروف روبرت لويل على النحو التالي: “بعد كل إعدام، يضع كأي قبلي جيورجي/ توتاً أحمر في فمه”. ولا وجود للشطر الأول من هذا البيت في القصيدة. أما ف دبليو أس ميروين فيقول: “يدحرج الإعدامات على لسانه كثمرات عنبية / متمنيا معانقتهم مثل اصدقاء من الوطن”.
ولا أدري من أين أتى ميروين بالثمرات العنبية، وبالشطر الأخير. بل ان بعض المترجمين حلقوا بعيدا عن الأصل بقولهم: “كل اعدام مأدبة/ وكبيرة هي شهية الجورجي”، وبعضهم قال إن التوت يرمز للدم بلونه الأحمر ، وآخرون قالوا إن التوت يعبر عن الرخاء والانشراح.