إيلي مارون خليل
(أيب وروائي وشاعر- لبنان)
إنّي اُومنُ، بثقةٍ جادّةٍ، ووعْيٍ مسؤولٍ، ورؤيا حازِمة، أنّ الكتبَ فئات، منها ما ولِد مَيْتًا، ومنها ما وُلِد ليموتَ، ومنها ما وُلِد ليستمرّ. فكيف يولَد الكتابُ مَيْتا، أو ليموت، أو ليستمرَّ حيًّا؟ ومَن يقرّر له مصيرَهُ، وبِناءً علامَ؟!
أمّا مولِدُ الكتابِ، فهكذا يتمُّ: يتكوّن فكرة هائمةً في البال، وصورةً سَديميةً في الخيال، وإحساسًا مُضمَرًا في الوِجدان، وتعبيرًا مُوَقَّعًا في الأذن. يستمرّ كذلك لزمنٍ قد يطول وقد يقصر، بحسب تَقَلُّبات مزاج صاحبِه، أو انفعالِه، أو تَصَفّي الألوان ونقاوتِها، أو تَناغُمِ الإيقاعِ وانسِجامِه!
وهذه، كيف تحدث، ولِمَ يطول زمنُها عند واحدٍ، ويقصُر عند آخر؟ وكيف تتكثّف عند أحدِهم، بما يفوق ما يحدث عند آخر؟ ولِمَ تحصُل هذه الفوارق، حتّى بين ذوي الاتّجاه الواحد، والثّقافة نفسِها، والموضوع ذاتِه؟! وهذا ما نلاحظُه، عبر العصور، حتّى عند أدباء المذهب الأدبيّ الواحد، وشُعرائه؟!
يعود الأمرُ إلى شخصيّة الأديب، ناثرًا كان، أم شاعرًا، في موهبتِه وثقافتِه وطبيعتِه… فالموهبةُ الضَّحلة، وهي الّتي يظنّها صاحبُها “موهبة”، ينزل كتابُها علينا طُرْحًا. هي تستعجلُه، فيسقط قبل يكتمل وينبِض بالحياة. وما يُشبه الثّقافةَ، عندها، لا يتأمّل، لا يتفكّر، لا يصبر، إذ لا طولَ أناةٍ تميّز الكاتب، أو الشّاعر، ليتمثّل السُّرعة من التَّسَرُّع، التّقليدَ من التّجديد، المعلومة من الثّقافة، الشّائع من الشّخصيّ المتميّز.
وعلى النّقيض، مَن كانت موهبتُه حقيقيّة، كانت “نِعمةً” عليه؛ وتاليًا أنتجت كتابًا “نِعْمةً”! أي كانت فِكَره عميقة، شخصيّة، مميَّزة، مميِّزة؛ وعاطفته قويّة، صادقة، مُنَوَّعة، خصبة؛ وبَيانه جديدًا، مُشرِقًا، موحِيًا؛ وأسلوبه ذاتيّا، فصيحًا، بليغًا، إيقاعيًّا، يجيد صوغ الفِكَرِ وربطها بالعاطفة وتلوينها بالبَيان. مِثْلُ هذا الكتابِ، يكون ناجحًا، مميِّزًا مُبدِعَه على الدّوام.
والآن، أين نهاد الحايك، و”اعترافاتـ”ها الـ”جامحة”، من هذه الأسئلة جميعًا؟ وهل كتابها، هذا، قابلٌ للحياة؟
لمعرفة هذا الأمر، يجدر تَحَرّي عناصر الأدب الأربعة، وقد مرّ ذِكرُها أعلاه، وهي: الفكرة والعاطفة والخيال والأسلوب.
ألفكرةُ، بَدْءًا، فكرةُ هذا الكتاب الرّئيسة، على ما يتراءى لي، هي إعلان حالة. أليس العنوان: “اِعترافات”، أضافت إليها الشّاعرة صفة توضح هذه الاعترافات؟ وإذ هي “جامحة” كأن لن تقف عند حَدّ، ولن تخشى جرأة. وما تكون “الاعترافات” إلّم تكن صريحة، واضحة، صادقة، لا تُخفي شيئًا، بل وجريئة، على ما في “المفهوم” المسيحيّ لهذه اللّفظة؟ ومن “شروط” الاعتراف، التّوبة الصّادقة والقصد الثابت على عدم العودة إلى ما تمّ الإقرار به. فهل هذا ما تُشير إليه نهاد الحايك، أم أنّ عنوانها هذا، من باب “الإغراء”، أو “الغِواية”، من أجل غاية؟
نظرة سريعة إلى عناوين المجموعة تَشي بـ”اعتراف اجتماعيّ”، لا دينيّ، وإن اتّصف بالصّدق، بالصّراحة، بالجرأة، ما يُشير إلى أنّ الحايك ترتاح نفسيًّا إذ هي تَبوح بما يعتمل في نفسها، ويختلج. ألبَوحُ يَشْفي الكبتَ والحرمان. وليس بعيدًا من هنا اعتبار كبار الفلاسفة، عبر الأزمنة، أنّ الأدب، بالأخَصّ الشّعر والمسرح، أهمّ عِلاجٍ نفسيّ يَشفي المُعاناةَ والعقد، فتعود النّفسُ “أمّارةً” بالحُبّ، المسامحة، المغفرة، وكأنّ الشِّعر، والأدبَ بعامّة، دواءٌ شافٍ ممّا يعكّر النّفسَ والرّوح، فيطهّرهما ويسمو بهما إلى المافوق، بعيدًا من عالم المادّة الضّاجّ فينا، شهواتٍ وتَصْخابًا، تشدّ بنا إلى عالم الغواية، حيث التَّمَرُّغُ بالمادّيّات الّتي نُحِبُّ نسحبَ أنفسَنا منها، مرّة واحدة إلى الأبد، نرغب معها، في ألّا نعودَ إليها، فنحيا الصّفاء:
شراعي مُرتجفٌ
لا تُدركُه الرّياحُ المؤاتية.
كم من الشّعر يَلزمني
لأمخرَ هذا الضّباب؟ (27)
وفي مكان:
في أيّ وادٍ تَسيلُ خطايانا
لنشيخَ بين الثّواني؟
بأيّ حبرٍ نُقِشتْ وصايانا
لنهيمَ في بَرّيّة اللّغات؟(29)
وهذا “الاعتراف” الطّاعنُ في اليأس:
في هذا الوطن الطّاعن في الاحتراق،
صرنا في الحياة
لا لنحياها،
بل لأنّنا لم نمتْ. (30)
مثلُ هذي اللُّمَح، شخصيّ، عميق، ينحرف عن العامّ الشّائع، ما يعني قدرة الشّاعرة نهاد على التَّفَرُّد المُثري والخصب، دلالة إعمالِ فكرٍ، ونَقْش على المدى لخَلْعِ آفاقٍ، فيه، موصَدة. من دون أن ننسى حقلًا معجميًّا دينيًّا، إشارة ثقافة تخدم ما تريد قوله، ومن هذا الحقل، من خلال نصّ واحد، ألبداية(43،42،41): أجترح…. معجزة، أنزف على صليب أحزاني، أعمّدك، سماء، جحيم… إلى ألفاظ وتعابير متناثرة في الصّفحات جميعًا: صلاة، الإيمان، الفناء، أسرار، هياكل، تجترح… قيامة، تخلّصه… وهذا يوضح الكون الدّينيّ في “اِعترافات جامحة”.
وتميّزتْ عاطفة الشّاعرةِ، بما يجعلها صادقة، لاهبة، قويّة، عميقة، شخصيّة. ألسنا في كتاب “اعترافات”؟ وهي جامحة، أي أنّها قويّة ولاهبةٌ لا تخضع لحدود، إنما تتعدّى ذلك إلى حيث شاءت الشّاعرة، واستطاعت. فأحيانًا تقصّر القدرة عن الرّغبةِ، والرّغبةُ عن القدرة، هنا وثمّة، فالعاطفة تنبع صافية، صادقة، من نبعٍ لا يزول، لا ينضبُ، كأنّه أزليٌّ أبديٌّ، كأن غير بعيد من اللّه، إذ إنّ الحُبَّ، على قول أنطون قازان، “نعتُ اللهِ الأوّل”. من ذلك قصائد عديدة، منها: “اِحتراق”(28)، و”المنفى”(50)، و”وجهك وجهي”(83)، و”مُسَوَّدة”(109)…
وتبدو عاطفة شاعرتِنا فرديّة جَماعيّة، قويّة صادقة، نبيلة أصيلة. هي تتكلّم بلسان حالها بعيدًا من “اختراع” العاطفة. لذلك يمكنني القول إنّها صوْتُ نفسِها، الصّوتُ الصّارخُ في بَراري الذّات، العاصفُ في تلافيف الأيّام، المنبثقُ من نبض القلب، من دفق الدّماء في الشّرايين. لا تذكّرك، نهاد، بأيّ من الشّعراء، إنّما هي صوت ذاتها، بلغة ذاتها، عَبْر صورِ ذاتِها والرّؤى!
أمّا صُور البَيان، فكثيرة، متنوّعة، قصيّة الآفاق، غنيّة الإيحاء، على غُموض إيحائيٍّ، ما يثير عمل الخيال، ويذكّر بقولٍ، لأرسطو، شهيرٍ وذي دلالة:” ألشّعرُ لغتُه المَجاز”. وبقدر ما تكثر الصُّورُ، يغتني الفكرُ، يكتنز، يميّز صاحبَه، فتتشابه الصُّورُ بالسُّوَر، تتناغم الألوان بالألوان، تتشابك الصّورة بالصّورة، تتشكّل حدائقُ آسِرةٌ، خلّاقةٌ، تُبدِعُ عوالمَها الخاصّة، فتميّز، مرّة بعد، شاعرة من شاعرة، روائيًّا من روائيّ، أديبًا من أديب… من ذلك: يداك كيانٌ، يداكَ أطلس، ليس في الكون متّسعٌ لصوتي، دخان قرابيني أشعار، ظلّي اليوم أشدّ عريًا… وهذا العنوان: “عزفٌ على الغياب”، وهذا:” ألحبّ يقينًا على قارعة الأوهام”، وآخر:” حوريّةٌ مُضَرَّجةٌ بالحروف”، وأخير:” أرضٌ تتسرَّبُ من بين الأصابع”…
هذي ضمّة عشوائيّة من صور الكتاب، تقطّر بين كلماتِه والسُّطور حلاوةً توحي وتؤثّر وتحضّ على التّفكير والتّأمُّل، فتجذب القارئ ذا الخيال الخصب، والثّقافة المعمَّقة، فيسير في طُرُق التّأويل الّذي يحوّل النّصَّ نصوصًا، والصّورة صورًا، وعناقيد الصّورِ سُوَرًا.
وفي ما خصّ العنصر الأخير، أو الأسلوب، فإنّ أوّل ما يثير الانتباه هو التَفَرُّدُ في البُنية، ألفاظًا وصُورًا وتراكيبَ. ألألفاظ تعبير صريح عن فكرها، وِجدانها، حواسّها، رؤاها، وما ترغب في التّصريح به، أو الإشارة إليه. والخيال خلّاق مجدّد يصدر عن نفس متفرّدة الثّقافة والرّؤيا؛ والتّراكيب، بما فيها من تشابيه واستعارات، ورموز وكنايات، وتقسيمات وإيقاعات… متينة على جدّة، بليغة على دقّة؛ وهي فصيحة على حداثة، مُشرِقةٌ على عفويّة؛ وتبقى في كل حال، متقَنةُ البَساطةِ من دون تكلُّفٍ أو صناعة. فأدبها طبْع لا صَنعة! والشّواهد في كلّ نصّ.
ختامًا، إذا كان لي من أمنية، بعد قراءة هذا الكتاب الممتع، فهي العمل على الإيقاع، الخارجيّ بشكلٍ أخصّ. فأنت لن “تنزعج” من “إيقاعات” نهاد، إذ إنّ الإيقاع الدّاخليّ، النّفسيّ، وافرٌ وظاهر. فلتعملي على “التّفعيلة”. ألتّسجيع ليس من ميّزات الشّعر.
نهاد إميل الحايك! كتابُك هذا: “اِعترافات جامحة”، وبرأيي المتواضع، أصاب، من الشّعر، جوهرَه: لقد حقّق المتعة والقيمة، ولذلك هو كتابٌ قابلٌ للحياة، وبفرح.
****
(*) “اِعترافات جامحة” لنهاد الحايك، في مئة وثلاث وثلاثين صفحة، حجمًا وسطًا، عن دار سائر المشرق، 2015.
ألخميس 13- 10- 2016
elie.khalil@hotmail.com
www.eliemarounkhalil.com