خالد غزال
(كاتب وباحث- لبنان)
في كتاب «الثقافة كسياسة: المثقفون ومسؤوليتهم الاجتماعية في زمن الغيلان» (المؤسسة العربية للنشر)، يركّز ياسين الحاج صالح على دور المثقف في المجتمع وضرورة أن تكون له مساهمة في التغيير والممارسة. يشدّد الكاتب على هذا الانخراط ولا يرى عذراً يُبرّر الحيادية، ولا سيما في زمننا هذا. يتحمور الكتاب على المثقفين السوريين، في شكل رئيس، ونتاجهم على امتداد تاريخ حكم البعث وعلاقته بهذه الفئة.
يمارس الكتاب نقداً حاداً في أحيان كثيرة، خصوصاً عندما يرسم للمثقف دوراً وموقعاً انطلاقاً من رؤية الكاتب نفسه لما يجب أن يكون عليه المثقف، بحيث تبدو انتقاداته وآراؤه مفتقدة أحياناً إلى الموضوعية، من دون أن يلغي ذلك أهمية هذه الملاحظات النقدية في زمن تنفجر فيه المجتمعات العربية من الداخل، ولا توفر شظاياها فئة المثقفين أنفسهم.
يتألف الكتاب من ثلاثة عشر نصاً موزعة على ثلاثة أقسام، كتب معظمها في العامين 2015 و2016، وهي محكومة بالانتفاضة السورية والمآل الذي وصلت إليه، محاكماً المثقفين استناداً إلى التطورات السورية والموقف منها. تتوزع النصوص على العناوين الآتية: «الثقافوية العربية المعاصرة: خصائص منهجية ومحددات أساسية»، «نظرية الحتمية الثقافية في الثقافة السورية»، «من الإسلام إلى المجتمع: مقاربة جمهورية علمانية»، «من نقد الثقافوية إلى نقد الثقافة والدين»، «خطاب العقل وظهور تيار العقليين»، «في نقد عبدالله العروي: «المثقف العربي» برنامجاً لتحقيق الحداثة»، «نظريات المثقفين السوريين في الدولة العربية»، «الخرائط الجغرافية أم الخرائط العقلية هي التي ينبغي إعادة رسمها؟»، «الماهية والكراهية: الأديب الفصيح ضد الزعامة الأمة»، «الغيلان الثلاثة: مقالة غير عقلانية»، «مقالة في الثقافة والثورة الثقافية»، «من الأبوات إلى الأنوات: جيلان من الثقافة والسياسة»، «الأزمة الوطنية ونهاية المثقف النبي».
في القسم الأول من الكتاب «نقد الثقافوية»، يعرّف الكاتب الثقافوية وينتقدها عبر إبراز طابعها الاختزالي، وهو يميز بين ثقافوية علمانية وثقافوية إسلامية. ينتقد المثقفين السوريين الذين تركز نقدهم حول الدين، والذين تتشابه آراؤهم مع تفكير الإسلاميين في وقت يجب أن يتحول هذا التمركز إلى النظر في المجتمع وأحواله. وهو لا يقصد بذلك عدم وجود مشكلات ثقافية وعقائدية تسيء الثقافوية طرحها، لكنّ هذه المشكلات لا يجوز أن تكون أداة تبرير لثقافة محلية تسوّغ الاستبداد والتمييز والعنصرية.في نص بعنوان «الثقافوية العربية المعاصرة: خصائص منهجية ومحددات سياسية»، يشكل الأساس الذي يناقش صالح فيه وينتقد الثقافة العربية السائدة والمثقفين الذين أنتجتهم المجتمعات العربية على امتداد عقود من الزمن. يرى أن الثقافوية هي شرح المجتمع وتفسيره وتعيين سياسته من خلال الثقافة، بما يحسم بالقول إن واقع المجتمعات العربية وأحوالها وصلت إلى ما هي عليه بسبب طبيعة ثقافتنا المتناسلة إلى الزمن الراهن. وهذه نظرية تضمر في الواقع أن التغيير في المجتمع مشروط بالتغيير الثقافي قبل كل شيء. تتوزع الثقافوية العربية على مشهدين، الأول علماني يسعى إلى تفسير الاستبداد والتخلف بحالة الثقافة العربية السائدة اليوم عبر إطلاق نعوت عليها بكونها ما قبل حداثية أو غير عقلانية أو سلفية، مع غلبة راجحة إلى إرجاع هذا التخلف إلى الدين، وبالتحديد إلى الإسلام. أما المشهد الثاني فهو إسلامي بامتياز، ويعيد سبب تخلفنا إلى تخلي مجتمعاتنا عن الإسلام الذي يشكل أساس هويتنا ومقومات كياننا، وهو ما يدفع إلى إطلاق شعار «الإسلام هو الحل» بوصفه طريقاً للخلاص والإنقاذ وشرطاً للتقدم.
مع مطلع القرن الحادي والعشرين، وبعد هجمات أيلول (سبتمبر) في الولايات المتحدة، ازدهرت الثقافوية العلمانية من خلال التركيز على مسؤولية التشدّد في كونه أساس تخلّف مجتمعاتنا، وأن فصل الدين عن الدولة يشكل مفتاح الخروج من هذا الأسر. تُغيّب هذه الثقافوية الأبعاد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافوية لأوضاعنا الراهنة. تستكمل هذه النظرة برؤية تكمن فيها أساس العقيدة الثقافوية العربية، ترى في الغرب ثقافة عقلانية وعلمانية وحديثة. يصبح الغرب معياراً للحداثة، وكل ابتعاد عنه هو التخلف والتأخر، لتصل إلى خلاصة ترى أننا متخلفون بسبب غياب الديموقراطية أو عدم تطبيق العلمانية أو انعدام الحداثة أو نقص العقلانية أو الافتقار إلى إيديولوجية علمية.
ومقابل هذه العلمانية، ازدهر لدى الإسلاميين المتشددين معيار يكاد يكون وحيداً هو الإسلام الذي يعتبر كل شيء ناقصاً إذا لم يتطابق معه. إن تفسير تحلفنا وفق منطق الإسلاميين يعود إلى قلة الإيمان أو التخلي عن الإسلام وعدم تطبيق الشريعة. أما الغرب فهو يعني عندهم الانحلال أو المادية أو العدوانية أو الجشع.
يتساءل الحاج صالح عما إذا كانت الثقافة العربية متمركزة حول كيفية تحقيق التقدم أو الالتحاق بالركب الحضاري المتقدم، ألا تصبح «التاريخانية كما عرّفها عبدالله العروي هي المنهج الأمثل، وتحقيق المطابقة مع الغرب، معرّفاً بالليبرالية والعقلانية والحداثة… هي الهدف؟ أليس تعريف أوضاعنا المعاصرة بأنها تأخر ثقافي احتمالاً كامناً في المنهج والهدف ذاته»؟. يستعيد الكاتب التحول الفكري الذي أصاب الثقافة العربية منذ سبعينات القرن الماضي، من اعتبار التخلف الاقتصادي هو أساس تخلف مجتمعاتنا العربية، وفق القاموس الماركسي الذي كان سائداً آنذاك، نحو اعتماد التأخر الثقافي في كونه مصدر التخلف، وهو تحول بدأه عبدالله العروي وياسين الحافظ وصولاً إلى جورج طرابيشي. ما تميزت بها هذه النظرة الثقافوية هي العداء للإسلام، ما يجعلها على اتصال موضوعي بكل مقولة صراع الحضارات.
يعطي صالح حيزاً للحديث عن المثقفين وسياساتهم، فيتحدث عن عبدالله العروي ومشروعه التاريخاني، معتبراً أن «المثقف العربي» الذي سعى إلى إنتاجه هو برنامج لتحقيق الغرب أو الحداثة. فالغرب في تفكير العروي هو التنوير والحداثة والعقلانية في السياسة والنفعية، وفي الأخلاق والليبرالية وفي الاجتماع والقانون. يرى أن العروي يتحدث من موقع عربي عام، فلا يظهر في طرحه أنه يتناول بلداناً محددة، أو أوضاعاً عينية محددة سياسياً. ويرى صالح أن أعمال عزيز العظمة «تشارك تاريخانية العروي التكتم على الصفة السياسية المركبة للواقع»، باعتبار أن أقصى ما يراه العظمة هو الدول، فيما يشيح ببصره عن الطبقات والعشائر والطوائف، وحتى الناشطين والمثقفين المقموعين.
وفي قراءة لجورج طرابيشي، يقول صالح إن مقاربة طرابيشي للنظم القائمة في مجتمعاتنا تنطلق من كونها انعكاساً لهذه المجتمعات ولثقافتها ومستواها الحضاري، أي المقاربة هنا ثقافوية لا تأخذ في الاعتبار العوامل الأخرى لتخلفنا. أما برهان غليون الذي يركز على مقولة الديموقراطية، فيقول صالح عنه «إن مجتمعاتنا العربية في نظره تبدو مقيّدة من دول هي بمثابة «وحش يغتال الحريات… والدولة التعسفية بمثابة آلة تحاصر المجتمع من كل صوب وتخضعه لإرادتها وتفرغه من أي ماهية سياسية. إنها وحش مقدس».
في نص يختم به كتابه بعنوان «الأزمة الوطنية ونهاية المثقف النبي»، يعود الحاج صالح إلى التركيز على المثقفين ودورهم في المجتمع، خصوصاً في بلده سورية. ينتقد هؤلاء لعجزهم عن تقديم قراءات جادة تتناول تكوين سورية وتاريخها، وما مرّ عليها من تجارب، وأخطار تفجّر الكيان وتفكّكه، وسبل تجاوز انقساماته. يعترف بصعوبة الكتابة في سورية في ظل نظام من أعتى الديكتاتوريات، ما يدفع الكاتب السوري إما إلى تجاهل المرحلة الراهنة – وهو خيار كثيرين – وإما الكلام العمومي على العالم العربي والأنظمة والعالم الثالث والبلدان النامية. في المقابل، يتمثل الوجه الآخر لدى المثقفين في توجيه مفهوم الحداثة ضد الإسلاميين، بما يجعلهم يغضون الطرف عن منبع التمييز والعنف والفساد في مجتمعاتنا: «نظم نخبوية امتيازية، يجد إيديولوجيو الحداثة أنفسهم على قرب من طوابقها العليا، المنظمة، وبالكاد يقولون شيئاً عن إفراطها في الفظاظة». ليتساءل عمّا إذا كان هناك من مؤشرات إلى ظهور نموذج جديد للمثقف، يقاوم التمييز والقمع والتهميش، بدل منشدي العدم و «الخراب الجميل» الذي يمثل نموذجه الكاتب السوري أدونيس. لا يبدو متشائماً في هذا المجال، فقد انكسرت التابوات بفعل تكسر البلد، و «الثقة بالأنبياء الجدد وعقائدهم أدنى من أوقات سابقة».
تقدم مساهمات ياسين الحاج صالح في كتابه ما يستوجب التفكير والتدقيق، خصوصاً أن الكاتب منجدل في الأحداث الراهنة والانهيارات التي تضرب المجتمعات العربية. قد يؤحذ على بعض مقارباته أنه يدين المثقفين ومفهوم المثقف العضوي الذي ساد سابقاً، ليعود فيقع في الفخ نفسه من خلال تمثل أدوار قد تبدو وحيدة الجانب للمثقف. يمكن المثقف أن يمارس دوره بالتغيير، ليس في الانخراط فقط بالعمل السياسي، فمجالات الثقافة واسعة جداً، ويمكن من خلال الفن أو الأدب أو الشعر أو الفلسفة، أن يمارس هذا الدور.