الأديب والشاعر محمد الماغوط
(1934- 2006)
لم يعد خافياً على أحد أن صمت الطناجر البخارية في معظم مطابخ الوطن العربي وامتناعها عن الصفير في الوقت الراهن ما هو إلا نوع من الاحترام والتهيب أمام صفير الطنجرة الكبرى في المنطقة وتصاعد البخار من فوهات مدافعها وميكروفوناتها عما قريب، بعد أن أخذ المدعوون يتسابقون إلى المائدة وكل منهم يحمل صحنه وشعاراته بيده.
وانه على الرغم من ملايين الاقدام الفتية التي تدق كعوبها على الأرض العربية صباح مساء فلا شيء يدب عملياً على طريق التحرير سوى عكاز بسام الشكعة.
وان ازدحام السجون العربية بالمناضلين والأبرياء الذين يدقون رؤوسهم بالجدران والأبواب المغلقة دون جدوى يعني أن الترجمة العملية للاءات الخرطوم هي: لا صلح، لا اعتراف، لا مفاوضات مع الانسان العربي.
وأنه لو حلت الآن بالمنطقة وبالعالم أجمع أفدح المصائب القومية أو الجغرافية أو المصيرية، فان المواطن العربي – رداً على هذا المصير الذي آل إليه – لم يعد يقفز إلى بندقية ليحارب أو إلى الشارع ليتظاهر، أو حتى غلى السطوح ليتفرج، بل إلى آلة الجيب الحاسبة ويحسب:
هل تؤثر على تجارته إذا كان تاجراً؟
أو على محصوله إذا كان مزارعاً؟
أو على شهرته إذا كان كاتباً؟
أو على اعلاناته إذا كان صحافياً؟
أو على امتحاناته إذا كان تلميذاً؟
أو على ترفيعه إذا كان موظفاً؟
فاذا كان الجواب: “لا” فكل شيء على ما يرام. السماء صافية، والنسيم عليل، ولا ينقصه إلا وصلة غنائية أو مسرحية فكاهية ليقلب على قفاه من الضحك والانشراح وخلو البال.
وبناء على ما تقدم، فان المبعوث المتجول فيليب حبيب لا يسعى من خلال زياراته المتلاحقة للمنطقة، واجتماعاته الدائمة مع هذا وذاك إلى اعداد الترتيبات اللازمة لانسحاب القوات الاسرائيلية من لبنان، أو لإيجاد الحلول العادلة لقضية العرب الكبرى. بل لاعداد الترتيبات اللائقة بجنازة العصر. لها ولعدالتها، مع الاهتمام بأدق التفاصيل والاجراءات المتعلقة بها وبجلال مظهرها مثل:
من يعلن الوفاة رسمياً ومتى؟
ومن سيعزي بها؟
ومن سيقبل التعازي؟
ومن سيبكي بصمت؟
ومن سيغمى عليه عند الدفن؟
وبماذا سيغطى الضريح الطاهر؟ بأغصان الريحان أم بأغصان الأرز أم بأغصان النخيل؟
فهذا زمن الاتفاق على كل شيء.
ولكنه ليس زماني، فأنا كالخيزران … أنحني ولا أنكسر.
فحتى لو رأيت المشيعين والموقعين بأم عيني يمسحون حبر التواقيع عن بصماتهم بالجدران وثياب المارة.
ولو انتشرت سياط التعذيب على حدود الوطن العربي كحبال الغسيل.
وعلقت المعتقلات في زوايا الشوارع والمنعطفات كصناديق البريد.
وسالت دمائي ودموعي من مجارير الأمم المتحدة.
فلن أنسى ذرة من تراب فلسطين، أو حرفاً من حروفها، لا لأسباب نضالية ووطنية وتاريخية بل لأسباب لا تزال سراً من أسرار هذا الكون كإخفاقات الحب الأول, كبكاء الأطفال الرضع عند الغروب.
لقد رتبت حياتي وكتبي وسريري وحقائبي منذ الطفولة حتى الآن، على هذا الأساس. فكيف أتخلى عن كل شيء مقابل لا شيء؟
ثم انني لم أغفر ضربة سوط من أجل الكونغو.. فكيف من أجل فلسطين؟
ولذلك سأدافع عن حقدي وغضبي ودموعي بالأسنان والمخالب.
سأجوع عن كل فقير.
وسأسجن عن كل ثائر.
وأتوسل عن كل مظلوم.
وأهرب إلى الجبال عن كل مطارد.
وأنام في الشوارع عن كل غريب.
لأن اسرائيل لا تخاف ضحكاتنا بل دموعنا.
ولا بناء من عشرة طوابق بل شاعراً يكتب في قبو.
ولا تخشى وحدة بين مصرفين بل بين جائعين.
ولا اتحاداً بين نظامين بل بين شعبين.
ولا القمم العالية بل ما يتجمع حولها في الوديان.
وقد يكون هذا الزمان هو زمان التشييع والتطبيع والتركيع، زمن الأرقام لا الأوهام والأحلام. ولكنه ليس زماني. سأمحو ركبتيّ بالممحاة، سآكلهما حتى لا أجثو لعصر أو لتيار أو مرحلة.
ثم أنا الذي لم أركع وأنا في الابتدائية أمام جدار من أجل جدول الضرب وأنا على خطأ. فهل أركع لبيغن أو لسواه أمام العالم أجمع بعد هذه السنين، وأنا على حق؟
إني لست مخلصاً لوطني وعروبتي وأناشيدي المدرسية وحسب بل إنني مخلص حتى لسعالي.
ولن أيأس، ولن أستسلم ما دام هناك عربي واحد يقول: “لا” في هذه المرحلة ولو لزوجته.