الكنيسة والسياسة

kirillos

المطران كيرلّس سليم بسترس

الكنيسة هي جسد المسيح، الذي يستمرّ على مدى التاريخ حتى نهاية الزمن. ولا بدّ لها في مسيرتها هذه أن تتبع تعاليم المسيح وتستنير بنوره. إنّ موقف يسوع من السلطة السياسيّة اختصره بقوله: “أدُّوا لقيصر ما هو لقيصر، ولله ما هو لله” (متى 21:22). لم يرتبط يسوع بأيّ حزب سياسيّ من الأحزاب المعروفة في عصره، ولم يأتِ لينشئ مملكة على غرار ممالك هذه الدنيا.

فعندما وقف أمام بيلاطس للمحاكمة، سأله بيلاطس: “‘أملكُ اليهود أنتَ؟’ أَجابه يسوع: ‘مملكتي ليستْ من هذا العالم. فلو كانت مملكتي من هذا العالم لكان حرسي دافع عنّي لكي لا أُسلَّمَ إلى اليهود. ولكنّ مملكتي ليست من هذا العالم’. فقال له بيلاطس: ‘أنتَ إذن ملك؟، أجاب يسوع: ‘إنّي ملك. وإنّي لهذا وُلِدْتُ، ولهذا جئتُ إلى العالم: أن أشهدَ للحقّ. فكلّ من كان من أهل الحقّ يسمع صوتي”. قال له بيلاطس: “وما هو الحقّ؟'” (يو 33:18-38).

إنّ مملكة يسوع هي مملكة الحقّ ورسالته هي الشهادة للحقّ. كلُّ ممالك الدنيا تزول، ويُبيد بعضُها بعضًا. أمّا مملكة الحقّ فثابتة إلى الأبد، ولا شيء يمكن أن يُزيلَها. لأنّ الله هو الحقّ، ولا شيء يمكن أن يُزيلَه. تلك هي المملكة التي جاء يسوع يُنشئها، مملكة الحقّ، الذي هو الله نفسُه، ومملكة الحياة، التي هي حياةُ الله نفسُها. لقد فصل يسوع بين السلطة السياسية وسلطة الله. هذا التحرّر من السلطة السياسية أتاح له أن ينتقد السلطة السياسيّة. فإذ قيل له يومًا: “انصرفْ، اذهبْ من هنا فإنّ هيرودس يريد قتلك”، قال لهم: “اذهبوا وقولوا لهذا الثعلب: ها إنّي أطرد الشياطين، وأجري الأشفية اليوم وغدًا وفي اليوم الثالث النهاية. فلا بدّ لي إذاً أن أواصل الطريق اليوم وغدًا، واليوم الذي بعدَه” (لوقا 31:12-32).

هذا الفصل بين السلطة السياسية وسلطة الله لا بدّ للكنيسة من أن تستمرّ فيه، وبذلك تبقى حرّة لتنتقد السلطة السياسية عندما لا تقوم بما يؤول الى خير المواطنين الذين انتخبوها لخدمة المصلحة العامّة. الكنيسة مؤتمنَة على حقّ الله الذي لا يمكن الحفاظ عليه إلاّ من خلال الحفاظ على حقوق المواطنين. وهي تعلم التجربة التي يقع فيها بسهولة كلّ من وصل إلى السلطة: أن يسخّر المصلحة العامّة لمصلحته الشخصيّة. هذا هو أصل الفساد الذي يتكلّم عليه الجميع اليوم في لبنان في مختلف مرافق الدولة. وهذا ما يحذّر منه يوحنا الإنجيليّ في رسالته الأولى، عندما يتكلّم على “العالم”، ويعني بـ”العالَم” العالَم الفاسد، فيقول: “لا تحبّوا العالم، ولا ما في العالم. إن أحبّ أحد العالم فليست فيه محبة الآب. لأنّ كلّ ما في العالم – شهوة الجسد وشهوة العين وصلف الغنى – ليس من الآب بشيء، بل من العالم. والعالم يزول وشهوته أيضًا. أمّا من يعمل بمشيئة الله فإنّه يثبت إلى الأبد” (15:2-17).

إنّ يسوع، في صلاته الأخيرة في العشاء السرّي، قال عن تلاميذه: “لقد أعطيتُهم كلمتكَ فأبغضهم العالم لأنّهم ليسوا من العالم كما أنّي أنا لستُ من العالم. ولستُ أسألكَ أن تُخرِجهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرّير” (يوحنا 14:17-15).

هل يدرك المؤمنون في الكنيسة، من إكليروس وعلمانيّين، أنّهم، باتّحادهم بالمسيح والتمسّك بكلمته ونشرها في العالم، لم يعودوا من هذا العالم، وإن كانوا لا يزالون في هذا العالم؟ هذا ما يوصي به بولس الرسول أهل فيليبي: “لكي تصيروا بغير لوم، أطهارًا، أبناء لله أبرارًا، في جيل متعوّج فاسد، في عالم تُضيئون فيه كنيّرات، ببذلكم له كلمة الحياة” (15:2-16).

***

(*) جريدة النهار 22  أكتوبر  2016

اترك رد