مالك حداد .. إنك رجل محترم

bilal tal

بلال حسن التل

(كاتب- الأردن)

لا أعرف وزير النقل المستقيل مالك حداد، ولم ألتق به في حياتي كلها، وفي المرات العديدة التي سمعت اسمه يتردد أمامي، كان هذا الاسم مقروناً بالثناء على صاحبه باعتباره رجلاً معطاء، طالما مد يده لمساندة العديد من الأنشطة المجتمعية.

وهي صفة أكدها في خاطري التصرف المسؤول الذي قام به مالك حداد، في واقعة استقالته من الحكومة، فور أن أثارت بعض وسائل التواصل الاجتماعي قضية متعلقة به، مر عليها زمن طويل، طواها النسيان بعد أن سقطت بالعفو الملكي، وهما أمران كان من الممكن أن يتمترس خلفهما مالك حداد ويتشبث بالمنصب، أو بما رتبه له المنصب من مكاسب لو كان الرجل طالب صيد، أو باحثاً عن مكانة أو مغنم عابر، لكنه تصرف كما قرأنا وسمعنا تصرفا حضاريا يُغبط عليه، مثلما تصرف كرجل دولة من طراز رفيع، رغم أن الرجل لم يسبق له أن تولى مناصب رفيعة في جهاز الحكومة، ومع ذلك جاء تصرفه على صورة نحب أن يتمثل بها كل العاملين في الحياة العامة في بلدنا، خاصة رجال الإدارة العامة، وأعضاء السلطات الدستورية، بعد أن ضرب لهم مالك حداد من نفسه نموذجاً عملياً يقتدى به، يجعلنا نقول له إنك رجل محترم هذه واحدة.

أما الثانية فإن القضية التي أثيرت بوجه الرجل لا تشي بنوازع جرمية عنده، أو تعصب ديني لديه، بدليل سيرته وإنجازاته خلال العقود الماضية التي تؤكد نوازع الخير فيه. أما ما فعله في الواقعة محل الجدل فأنه يدل على سطوة الأعراف والتقاليد الاجتماعية في بلادنا، وهي التقاليد والأعراف التي صارت أقوى من الدين لدى الكثيرين منا، بل لقد ألبسها هؤلاء لبوس الدين، فلا الإسلام يأمر بالقتل ولا المسيحية تفعل ذلك، لكنها التقاليد الحاكمة حكماً أشد نفاذاً من الدين، ومن قوانين الدولة في كثير من الأحيان، وفي العرف والتقاليد فإن ما نُسب إلى مالك حداد ليس فيه ما يعيبه، بل على العكس من ذلك، وأراهن بأن نسبة عالية من أبناء مجتمعنا لو وضعوا في الموقع الذي كان فيه مالك عند الواقعة المنسوبة إليه، لتصرفوا كما تصرف هو، مما يفرض علينا وعلى كل الذين أكلوا لحم مالك حداد وغيره أن نسعى إلى تطوير منظومة التقاليد والأعراف التي تحكُمنا، وتصبغ مجتمعنا بصبغتها في إطار سعينا إلى بناء دولة القانون وهذه الثانية.

أما الثالثة فهي حجم الكراهية والحسد والضغينة التي صار مسيطراً في بلدنا، وهو الحجم الذي أكدته أحداث الأسبوع الماضي، والتي تصلح قضية مالك حداد كنموذج لدراسة هذه الحالة، أعني حالة الكراهية والحسد والضغينة، التي تؤدي إلى الاغتيال المعنوي للأشخاص، وهو اغتيال يكون في كثير من الأحيان أشد وأقسى من الاغتيال المادي الذي يفضي إلى الموت، لأنه اغتيال لا تعرف الرحمة طريقاً إلى قلوب الذين يمارسونه، ممن ماتت ضمائرهم، وتعطلت عقولهم، بينما استيقظت وتنمرت غرائزهم وأحقادهم وحسدهم، وصار ذلك كله يحركهم ويعمي أبصارهم عن الكثير من الحقائق، وأولها أنه لا يجوز معاقبة شخص مرتين على ذنب اقترفه، ومنها أنه لا يجوز أيضاً الإصرار على نبش الماضي لكل واحد فينا، خاصة ممن تثبت الأيام أنهم صلحوا وأصلحوا، وفي عقيدتنا «الحسنات يذهبن السيئات» وفي مورثنا «من كان منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر»، وقبل ذلك كله إن «الله محبة» وإنه «رحمن رحيم» وإنه «غفور كريم» فهل نحن أتباع رسل الله الذين بشروا بكل هذه القيم السامية وأمروا ليس بالصفح فقط بل بالعفو والمغفرة وهذه الثالثة.

أما الرابعة فهي أننا قوماً أعمى بعضنا الحقد والحسد والكراهية عن تبين الحق، وهذا مخالف لأمر الله الذي أمر «بالتبين» حتى لا نصيب أحداً بظلم عن جهالة، أو حتى لا نبالغ في العقوبة، وفي تاريخ أنبياء الله ومحمد عليه السلام على وجه الخصوص عشرات الحالات التي كان يبحث فيها عن أسباب لإنقاذ المخطىء من العقوبة، وفي تراثنا الشبهات تدرأ الحدود، فلماذا نصر نحن على معاقبة الأبرياء، أو تغليظ العقوبة على من يخطىء، فنغلق في وجهه باب التوبة الذي فتحه الله عزوجل، ألا يدل ذلك على أننا مجتمع لا يبحث عن العدل ولا عن الحق، مجتمع سيطرت عليه عقلية القطيع، فلم يعد «يتبين» قبل إصدار الأحكام بل صار يوظف معطيات العصر للأذى بدلاً من توظيفها للتطور والرقي، يوظفها لنشر الكراهية وتعميم الجهل، بدلا من أن يوظفها لنشر المعرفة، وقبلها المحبة، وهذه حقيقة لا يحتاج المرء إلى كبير جهد لإثباتها، ذلك أن أي متصفح لوسائل التواصل الاجتماعي في بلادنا سيجد أن هذه الوسائل تحولت إلى محاكم تفتيش ومنصات إعدام، تأخذ الناس بالشبهات، بل بالافتراءات، مما يوجب علينا أن نفكر بجدية في ايجاد وسيلة لضبط هذه الوسائل، حماية لأنفسنا ولأخلاقنا ولمجتمعنا، من الاغتيال الذي تمارسه شرائح متزايدة من أبناء مجتمعنا بحق نفسها، وبحق شركائها في الوطن، وما جرى في الأيام القلية الماضية يجب أن يكون جرس إنذار لنا جميعا فهل ننتبه.

 

اترك رد