إيلي مارون خليل
(أديب وروائي وشاعر وناقد- لبنان)
بين كتاب شوقي بزيع، أيّ كتابٍ، وبيني، كقارئ ذوّاقة، رَفّةُ نهدةٍ، وشَهقةُ قلب. وما بين النّهدةِ والقلب، يحيا شوقي بْزَيع. فما أتعسَه، وما أسعدَه!
ما أتعسه؟ لأنّه يحيا، بأعصابه، أحاسيسه والاحتمالات. نعم! ألأحاسيس يكتبُها، ويكتب الاحتمالات! ما يجعله على شفار الجراح الّتي بها يكتب ما يرى ويشعر ويتخيّل. لكنّها تعاسةٌ تُفرِحنا بمنتوجها، بثمرتها، بكيانٍ لها، جديد، يُقحِمُنا فيه، ونحن إليه بوعي وحبّ ورفيف قلب.
وما أسعده، شوقي بزيع! ليس لأنّنا، نحبّ شِعره ونلاحق شِعره، والفُضوليّ منّا، حياته ويحاول أن يتحرّاها، فهذه تُثقِلُ عليه، ويهرب منها؛ بل لأنّنا نُقيم شِعره في قلبنا والوِجدان! لأنّ شِعره ابن مخزون القلب والوِجدان، إلى كونه مخزون الفكر والإيقاع. وهو لُمَعٌ ـ إشراقات، تختزل لا تُعمي، تُثيرُ لا تشرح! ولك أن تغوص فيه، هذا الشِّعرُ، وأنت هانئٌ تتلذّذ نعمة الموهبة، وإشراقة القدرة الخَلّاقة.
وهذان المداران يخلقان عالمه الشِّعريَّ الثّرّ الكثيف. عالَمُه الشِّعريُّ الثّرّ الكثيفُ هذا، وهو انعكاسُ حياتِه، ثُلاثيُّ الإيقاع، بعيدُ الأصقاع، نافِذُ الصُّوَرِ والجِراح، واسِعُ الرّؤى، قَلِقُ الرِّياح: أنثى وأرضٌ ووطن. يقولُ إنّ النِّساءَ لا يَتَجاوَزْنَ الأربعين! صحيح. ولكن: هل يَتَخَطّى الشّاعرُ المُراهَقة!؟
صحيح أنّ المرأة تكره التّقدّم في السّنّ، فتعالج نفسَها بما تستطيع إليه سبيلًا. وتتصابى، ببراعة أو بدلعٍ مصطنع، أو… بمغامرة مع مَن يصغرها سنًّا لسبب أو لأسباب. ألمهمّ، بالنّسبة إليها، الاعتقاد بأنّها لا تزال مرغوبة، بل مُشتهاة. ينجح بعضُهنّ، ولا ينجح بعضُهنّ الآخر.
لكنّ الشّاعر، هل يتخطّى حدود الأربعين؟ بل هل يتجاوز حدود المراهقة؟ وإنّي لَأرى أنّ الشّاعر نزار قبّاني لا يبالغُ حين يعترف بأنّ “الشّعراءَ جميعَهم أطفالُ”!؟ إنّهم ينظرون بعيني طفلٍ، بقلبه يحبّون، بيديه يلمسون، بخياله يستعينون، براءته يتنسّمون، ولا أقول: يستغلّون، أو يتخيّلون.
وشوقي بزيع هو هذا الطّفل الشّاعر المغازل المرأة الدّائم، والمأخوذ بالوطن، والعاشق الأرض. وذلك من منطلق كونه الشّاعر الطّفل في قلب الرّجل، والرّجل في قلب المراهق. بهذا لا يتجاوز، ومتعمّدًا، سنوات المراهقة. فهو الحالم النّاقل إلينا الأحلام. والمبهور النّاقل إلينا الانبهار. والصّادق الأحاسيس النّاقل إلينا صدقه. وهكذا يقع في قلبنا، الموقع الأعمق,
والأرضُ، هي الأخرى، امرأةٌ مميَّزةٌ مميِّزة. هي أمٌّ وأختٌ وحبيبةٌ وصديقةٌ وحاضِنةٌ ومُستفِزّةٌ ومُحَرِّضة. كيف لا يكون ذلك وقلبه مُشرَعٌ لها، متلهِّفٌ إليها، هي الملهمةُ الدّائمة. ملهِمةُ الشّعر العاصف عذابًا يعذّب ويَعذُب. لا مفرّ من ذلك. هي التّجربةُ، وهي الحياة. ولا مجال للخروج منهما، وإلّا رسف الشّعر في برودةٍ لا يُرحَم صاحبُها. فالشِّعر نارٌ لا تُطفَأ ولا تنطفئ، لا في الواقع ولا في النّفس.
والوطنُ، هو أيضًا، نساءٌ وأرض. إلى جانب كونه روحًا وخَيالًا وحُلمًا وتُراثًا وحضارة.
وشَوقي بْزَيع، من زمن كلّيّة التّربية، أعرفُه. كلّيّةُ التّربية، في عهدها الذّهبيِّ الأجمل، لم تُخَرِّجْ نُخبةَ الأساتذةِ الثّانوييّن، فحسْبُ، بل أنتجتْ جيلا لافتًا من المفكّرين والإعلامييّن والكتّاب والشُّعراء و…السِّياسييّن. شاعرُنا أحدُ أبرزِهم، شِعرًا.
من الأصول، انطلقَ شِعرُ شَوقي بْزَيع. من الأصولِ المتحرِّكةِ، المتجدِّدةِ، المُتَّسِعةِ الانفتاح. هذه أُصولٌ تريد ترقى بالشِّعر، موضوعًا، وصُوَرًا، وإيقاعًا، وأساليبَ… مع شاعرِنا، في غالب دواوينه، باتت القصيدةُ بُنيةً فكريّةً، عاطفيّةً، رؤيويّةً، موسيقيّةً، في الآن عينِه. قصيدتُه، إذًا، سيمفونيّةُ فكرٍ ولونٍ ورؤيا ونغم، متجانِسةٌ منسجِمة، رائقةٌ صاخبة، مُتَكامِلةٌ متجانِسة. قصيدةٌ مِثْلُ هذه، تُحَرِّض، تَستفِزُّ، تُغري، وأنت لا تملكُ إلّا أن تستجيبَ، ولخيرِكَ، فلن “تبقى وحيدًا”، ولن تندم!
والأُصولُ الْـمِنْها انطلقَ، وأطلق قصيدتَه، تتحوّلُ، تتفرّعُ، تتشابكُ، تغتني، تُغْني، فتُطلِقُ القصيدةَ الجديدةَ المعبِّرةَ عن جيلٍ: فِكَرًا ورؤًى وعواطفَ… وتستمرُّ تختمرُ وتُخَمِّر لا إلى انتهاء. “جبلُ الباروك” مِثالٌ، “ألشّاعرُ” مِثالٌ، “قُمصانُ يوسف” مِثال… أكادُ أقولُ: شِعرُه، كلُّه، مِثال!
شَوقي بْزَيع! لك، من زبقين، مسقطُ رأس، صحيح… ولكن لك، في نفوسنا، شَمْخَةُ رأس! وفي صُدورِنا، مَسْقِطُ قلب! هنيئًا لنا!
إيلي مارون خليل
elie.khalil@hotmail.com