شعرية الأفق…

salah-bou-sreef

صلاح بوسريف

(شاعر- المغرب)

لم أكتب عن منير بولعيش وهو موجود بيننا، كما لم أكتب عنه، حين عاد إلى “الأولمب”، فأنا أحدث، دائما، هذا النوع من المسافات، حتى لا أتعجل “المحاكمة”، أو “الإطراء”، مثلما يحدث في كثير مما بتنا نقرأه، اليوم، باسم النقد الشعري، في ما هو كلام يجري خارج المعرفة بالنقد والشعر معا. ولم أكتب عن هذا الشاعر الشاب، حين غادرنا، لأن ما نكتبه من كلام، في هذه اللحظة بالذات، يكون نوعا من مضاعفة قتل الشاعر، أو بالنظر إلى الشخص، لا إلى النص، مثلما حدث مع الراحلين، أحمد بركات وكريم حوماري.

كان الزمن الذي مر على رحيل بولعيش كافيا لأعيد قراءة تجربته، رغم أنه لم يترك شعرا كثيرا. وأنا أهتم بالنص،في غياب الشخص، لأجد نفسي في مواجهة تجربة استثنائية، في بداياتها. شاعر من سلالة المستهترين العابثين بقيم الوجود العام والمشترك. الشعر، بالنسبة له، هو الترياق الذي كان يتعافى به من الجراح المسمومة التي حاقت به، وأكلت الكثير من عينيه، مثلما حدث للقديس يوحنا، الذي كان كلما توسعت مساحة استبصاره، خبا الضوء فيهما، وحلت محلهما العتمة والظلام.

الفضاء الذي اختاره منير بولعيش للسخرية من عبث الوجود، ومن قيمه الفجة والرثة، مثل ثوب خلق مستعمل، هو مدينة طنجة التي كان يقيم فيها، بما كان فيها من مفارقات وهوامش، لا تفتأ تضاعف من مساحة الظلمة في رؤية، أو في عين الشاعر، الذي اكتشف أن المفارقة والهامش، لا تليق بهما إلا الباروديا السوداء، التي هي تعبير عن الأفق المعتم الذي كان الشاعر يراه في المدينة، التي تقف في شبه “حياد” أعمى. فلا هي هنا، ولا هي هناك.

mounir-boul-3eesh

ليس غريبا أن يستحضر بولعيش كل الشعراء، والكتاب، والتواريخ، والأحداث، والأمكنة التي هي انقلابات، في الفكر، وفي النظر، أو هي ثورات على الذوق السائد، وأن تجتمع كلها في ديوان الشاعر، بكثافة، ودون مسافة بين زمن وزمن، ولا بين مكان ومكان، فهذا معناه أن أفق الرؤية عند الراحل، كان كونيا، أو ما يمكن اعتباره رؤية الهامش الذي يخلخل المراكز، ويشوشها، أو يربك شعريتها، ويعرف بها، ليختار شعريته هو، التي هي شعرية أفق، واستشراف .

لعل في اللغة التي كتب بها منير بولعيش، ما يربك المسافة بين الشعري والنثري، ويقلب تربة اللغة، لتصير نثرا في الشعر، وشعرا في النثر، وهذه من ميزات الإقامة في الشعر، ومن ميزات من أدرك الماء الذي به تحدث فرادة النص، أو التباس النثر فيه بالشعر، إلى الحد الذي يصير معه التقسيم الأجناسي في حرج، أو أرضا مظلمة، لا مسافة فيها بين حد وحد. أليست هذه هي وظيفة الشاعر، أن يكون مثل الأعمى الذي تكون الأراضي كلها عنده أرض واحدة، لا حدود، ولا قيود فيها ؟

منير بولعيش، شاعر بالمعنى العميق للكلمة، ما تركه في ذمتنا من شعر، يحتاج أن نقرأه بانتباه، مثلما قرأنا أحمد بركات. ولن أجازف إذا قلت، إن في شعر بولعيش كثير من شعر بركات، وفي شعر بركات كثير من شعر بولعيش، رغم أنهما من جيلين مختلفين، لكنهما التقيا في المفرق الذي عنده التقى البحر المتوسط بالأطلسي. فمن لم يستسغ هذا اللقاء، فليقرأ الشاعرين بتزامن، آنذاك، ستبدو له طبيعة الرؤية التي كانا يصدران عنها، وهي رؤية شاعرين سرا من العالم، وانتهكاه، قبل أن يعودا إلى ظلمتهما البعيدة

 

اترك رد