إيلي مارون خليل
(أديب وشاعر وروائي- لبنان)
أومنُ بأنّ الشِّعرَ ولادةٌ في الحُبّ، في الخير، في الجمال، على إيقاعِ النّفسِ البهيّةِ الإشراق، عَبْرَ كلمةٍ تُخلَقُ في موقعِها، وتنسكبُ في تعبير منبثقٍ من الذّات المُعانية والخلّاقة، متناغمٍ مع تعابير مُوَقَّعة وجميلة، ما يؤلِّف وحدةً تامّةَ الانسجام. يأتلف ذلك كلُّه، ويأتلق، بوساطة خيالٍ خَلّاقٍ ينوِّع، يلوِّن، يؤثِّرُ، يوحي، يُحيي! ما ينعكسُ على القارئِ الثّقيفِ الّلهيفِ إلى الارتقاء، فيتناغم، بدوره، مع ما يتلقّى، وينسجم، فيأتلفُ ويأتلقُ، فإذا بالمُتَلَقّي يصير القصيدةَ، وتصير القصيدةُ المتلقّي، فعلاقتُهما تشبه، تمامًا، علاقة الشّاعر بالقصيدة، ذاتِه الثّانية، وعلاقة القصيدة بالشّاعر، خالقِها الفائضةِ منه! فينتشي سعادةً، تُشعِرُه بأنّه كائنٌ فردوسيّ.
وأعرف أن ليس الشِّعْرُ، بأكملِه، يتدفّق في هذا المنحى، وذاك الاتّجاه. فنحن نجد أنواعًا عديدةً متنوِّعةً، متفرِّعةً، متشابكةً، موضوعاتُها منفتحةٌ على ما في الذّات الإنسانيّة من ارتداداتِ هَزّاتٍ وجوديّةٍ، وِجدانيّةٍ، صادقة. فإذا القصيدةُ، مهما كان نوعُها وشكلُها والموضوع، نازلةٌ عن قلبِ شاعرها بنبضِه كلِّه؛ ومنبثقةٌ من جوارحِه كلِّها، وفائضةٌ عن روحِه الصّافية الانفعال الصّادق، حتّى لو أنّ موضوعَها مستوحًى من “خارج”! ذاك أنّ الذّاتَ الشّاعرةَ، بلا وعيٍ واعٍ تعملُ: صقلًا للكلمات، صهْرًا للتّعابير، دَوْزَنةً للإيقاع، تنويعًا في الأسلوب والبَيان، فإذا القصيدةُ، هذه، كأختِها ذات الموضوع “الدّاخليّ”، وإذا بالأنواع تتأقلمُ في مصهرٍ هو “الذّاتُ الشّاعرةُ” الّتي يُشرِقُ بها كلُّ شاعرٍ شاعر!
هذا هو الشِّعْرُ، من رؤيتي إليه، عند الشّاعر. فكيف تكونُ الحالُ، إذًا، مع شاعرةٍ أصيلةٍ، وُلدتْ وفي يدها قلمٌ هائمٌ، وفي قلبِها جراحٌ لافحةٌ، وفي كِيانِها، كلِّه، معاناةٌ إنسانيّةُ الأبعاد، فإذا هي نبْضُ الشِّعرِ الصّارخ، وإيقاعُ الشِّعرِ المتناغم، وصُوَر الشِّعرِ المؤثِّرةُ الموحِيةُ، وموهبةُ الشِّعرِ الخلّاقةُ المبدِعة!؟
وقد صدر لهذه الشّاعرة المميَّزة، ﭭيكتوريا سلموني، حتّى الآن، كتابان: “براعم” (1983)، و”إبحارٌ ضدّ التّيّار” ـ(2000)؛ إضافة إلى مجموعة جديدة، لا تزال مخطوطة، نَشرتْ بعضَها في الصُّحف، وألقت منها في مهرجانات أو أمسيات، هنا وفي الخارج.
ألكتاب الأوّلُ اسمٌ على مُسَمّى، وقد أصدرتْه لها مدرستُها(مار يوسف، عينطورة) وكانت في سنتها الدّراسيّة الأخيرة، تشجيعًا لها، وتقديرًا لكتاباتها، واحترامًا لموهبـتها. لكنّ الكلام، الآن، ليس عليه، إنّما سوف نُضيءُ على كتابها الآخر، ولو بعد زمن طال منذ صدوره، فالشِّعر لا يَشيخ، ولا “يبوخ” الكلام عليه، ولا ينضب. ألشِّعر نبْضُ القلبِ، نبْضُ الحياة.
أولى مميِّزات “إبحار ضدّ التّيّار”، أناقتُه الخارجيّةُ والدّاخليّة، ما ينمّ عن رُقيِّ ذَوقٍ، وحسٍّ بالجَمالِ، لافتٍ، ما يشجّع عليه، ويحثّ على قراءته. وليس الأمر مهمًّا، فلْأعبر إلى سواه.
ثانية المميِّزات، مقدّمة غنيّةٌ لجورج جرداق، وهو مَن هو في عالمَي الشّعرِ الرّاقي، والنّقد الّلاذع غيرِ الرّاحم! تُضيءُ هذه المقدّمة(صص 7 إلى11)، على ما في قصائد الشّاعرة من صور مُشعّة، وخيال يعرف كيف يصطاد الجمال، وبنية شديدة التّماسُك، قويّة السّبْك، وإيقاع يُخصبُ المعاني، ويستولد الصّور! وتاليًا، يُشير جرداق إلى أنّ ﭭيكتوريا سلموني “امرأةٌ من شُعاعٍ وعطرٍ وشِعر، يسكنها الجمالُ جسدًا وروحًا!.(ص11) ثالثُها الوِجدانيّة الصّادقة، أمزقزقةً فرحًا ناصعًا كانت، أم كانت منتشيةً حزنًا شفيفًا. فصدقُ ﭭيكتوريا ناصعٌ غيرُ مُواربٍ في الحالتَين:
“قرّرتُ أن أبوح
بكلّ ما في القلب من أسراره
أن أرفع السّتار عن حكاية حزينه
حكايةِ القلب الّذي أحبّ واحترق
وعاد من جديد
يحوم في شوارع المدينه
كغربة السّفينة…
قرّرت أن أبوح
بكلّ حبٍّ عشتُه وعانق الفشل…”(صص15/16/17)
فتقرّر أن تحبّ “دونما جرحٍ ولا دموع…/لا خوفَ.. لا حرّاس/..أن أحرّر المشاعر السّجينة” وهي لتفعل! على الرّغم من كونها تخاف:”من أن تهزّ غفلةَ الجموع/فتسحق المدينة/شاعرةً حزينة..!!.”(ص19)
ثمّ تجرؤ فتأخذ في التّصريح، علانيةً، بأنّ “فارس القلب”( أضحى لها “بسمة النّور”، “فرحة الرّوح”، تلقى وجهه حيثما كان. وتعلن أنّها حلمت به طويلًا، قبل أن تلقاه، ومن لحظة الّلُقيا، تستقيل من عمرها السّابق! وهنا أُسِرّ إلى القارئ، هامِسًا: لا شكّ في أنّ أيّ قارئٍ لهذه القصيدة، سيغار من صاحبِها، ويتمنّى لو كان هو! كيف حدسْتُ!؟ لقد أحسستُ بهذا إحساسًا قويًّا وعميقًا غايةً في الصّدق!
رابعُها الثّورة على ما في بعض التّراث العربيّ من ذكورة. فها هي قصيدتُها المميزة “ليلى تعاتب المجنون”(صص 111/126) وفيها تواجه (المجنون) بأن اسكتْ! دعْني أنا أتكلّم فأعبّر عمّا بي! دع المرأة ـ الحبيبة تتكلّم، فتفيض بما في قلبها، وتصرّح بما في وِجدانها، وترسم ما في رغباتها… دعني أبح بما أُعاني، أُسِرُّ بما أخفي من أسرار روحي! يكفيك ما قلت عنّي، وبلساني، عَبر السّنين، فمَن أسَرّ إليك بما أُعاني!؟ مَن أخبرك بما أشعر، وكيف أشعر!؟ دعكَ منّي! يحقّ لي، أنا، أن أبوح! وبحرّيّة وجرأةٍ تفعل! وممّا تصرّح به: “صوّرْتَني نجمًا../.. ورسَمْتَني خمرًا تُعَتَّق في الدّوالي..!/ كوّنْتَني ممّا تشاءُ../ وصُغْتَني حسب اشتهائك لي/أرى وجهي بمرآة التَّغَزُّل../لا أراني..!”(122/123)… وتُضيف في مكان آخر من القصيدة نفسِها: “أحببتَني ـ شكرًا ـ !!/ولكن.. لستُ مهرتَك الأصيله/حرّيّتي.. هي أن أُحبَّك/أن أُجَنُّ كما جُننت../أبرعم الأشواق والآلام والأحلام/أبكي حين تجفوني/أصيح بدهشة الأطفال حين أراك../أنتظر المواعيد الكذوبه/باختصارٍ/أن أكون لأجل هذا الحبّ/.. قاتلةً ـ قتيله..!!.”(123/124) وتُنهي: “دعْ لي قليلًا من جنون!”(126)
إنّ هذه القصيدة ثورةٌ في شِعر الحبّ. هي ترفض بقاء الحبيبة صامتة خرساء! فلتعبّر عمّا تشعر به. فلْتُفْصِحْ عمّا تريد. وهي تتكلّم، وبالصّوت العالي، بلسان أيّة امرأةٍ معشوقة مكبوتة مخنوقة، تريد البوح ولا تجرؤ! فالمجتمع يمنع! ﭭيكتوريا لا تخاف. تتحدّى، جَهارًا تبوحُ، وتريد ذلك لجنس النّساء! فصوتُها فرديّ، ذاتيٌّ، خاصٌّ، وجَماعيٌّ، عامٌّ، كَونيٌّ! إنّه صوتُ الذّات الجَماعيّة المُعانية.
خامسُها الجرأة والحرّيّة حتّى اقتحام ما تريد، ما يشي بنفسٍ جريئة، حرّة، لا تخاف، فلا تقف أمام حواجز… وهذا ما تحقّقنا منه. ونُضيف: إنّ شْعْر شاعرتِنا، هذه، ينمّ عن حضورٍ ذي وزنٍ، ذي قيمةٍ، بين الشّاعرات العربيّات المميَّزات، بنبرتها الخاصّة. صحيح! إنّ ﭭيكتوريا سَلَموني ذات صوت ونبرة خاصَّين، مميَّزَين، معنًى ومبنًى وخيالًا. وما لا شكّ فيه، أنّ بعضَ أهمّيّةِ الشّاعر الأهمّ، تفَرُّدُه عن الآخرين، خُصوصيّتُه. من ذلك قصيدتُها “إنذارُ خاطئ” (95/96): تهمسُ: “جرسٌ يرنُّ../وصوتُك المهموسُ في أذني نغَم!/وتقول لي:/إنّي أحبُّكِ..سامحيني../كاد يسحقني النّدم!/وتقولُ: أشواقي تُحاصِرُني/ويخنقُني الألم!/جرسٌ يرنُّ../من المُنَبِّهِ..!!/لم أجدْ، لمّا صَحَوتُ/سوى المرارةِ … والألم..!.” ومن ذلك، أيضًا، قصيدتُها المهمّة: “ترنيمةٌ للغائبِ الحاضر”(101/108)، وقصيدة: “ليلى تعاتبُ المجنون”(113/126). ولن أطيل! فقصائدُها، على الغالب، ذاتُ خُصوصيّة لافتة العمق والصّدق والجرأة…
سادس هذه الخصائص، جِدّةُ المعاني وبَكارتُها، وطَرافةُ الكثيرِ منها، ما يؤكّد تَفَرُّدَها وقيمتَها. لا تستجدي ذاكرتَها، سلموني، إنّما تُنزِلُ المعاني عَبر صُورٍ يُقَطِّرها خيالٌ دائمُ الخَلقِ والاشتعال، فتنبثقُ لا تُشبه ما قبل. تؤسّسُ، ﭭيكتوريا سلموني، وترسم، وتُشير. تؤثّر وتوحي. إنّ متلقّي شِعرَها يرتاح في فضاء قصائدِها الواسعِ، الهانئ، الهادئ على عصفٍ، والعاصفِ على سُكون وطمأنينة، وهي تجعلُه يحيا حالتَها، فإذا الحالَتان متشابهتان، وإذا القصيدةُ خاصّةٌ تعبّر، في الوقت عينِه، عن الـ”أنا” الجَماعيّة، ما يجعل شِعرَها، في “إبحار ضدّ التّيّار” مُطَهِّرًا للنّفس، ومُصَفِّيًا للرّوح، فينجو المرء من واقعه المُرّ، مرتفعًا إلى الأسمى، فرِحًا، شَفيفًا. فحين تتحدّث عن عشقِها، تتحدّث عن عشق سواها. وحين ترسمُ صورة الحبّ كما تنظر إليه، إنّما تفعل ذلك بلسان كلّ أنثى! ما يُشير إلى ما ذكرتُ؟ لربّما كلّ قصيدةٍ، إنّما على الخصوص القصائد الآتية: “إعتراف لقارئ مجهول”، الأولى في الكتاب،(صص 15-19) و”اعتراف أخير لقارئٍ مجهول”، وهي الأخيرة،(صص 135-141)، وليس في الأمر صدفة، أن تبدأ باعتراف، وتُنهي باعتراف؛ لكأنّ كتابَها، هذا، اعترافاتٌ كلُّه… أي تعرية تامّة، صادقة، للنّفس، ما يُشيع جوًّا من الحميميّة في الكتاب بكامله. هذا سخاءٌ في ذوب الذّات والوِجدانيّة. وهنا يصحّ قولٌ أثير، أحفظُه منذ المرحلة المتوسِّطة، مؤدّاه أنّ الشِّعر إنّما هو “صُراخُ نفسٍ أُوجِعت، فغنّت بأوجاعها لتستريح!”
سابع المميّزات بلاغة أصيلة توجز لا تُعمي، حيث يجب، وتومئ لا تقتل معنى بشرح، ولا صورة بإيضاح. مع ذلك لا توغل في غرابة الغموض، ولا في غموض الغرابة، عاملة بقول البُحتريّ:” والشِّعرُ لُمَحٌ تكفي إشارته…”! فارضة، بذلك، على المتذوِّق، أن يستدعي التّركيز والتّأمُّل والتّفكير، فليس الشِّعرُ تَرَفًا، ولا تسليةً… مثال ذلك مجموعة قصائد عنوانُها الواحد: “برقيات حب مستعجلة” (89-97)، وهي خمس قصائد يتألّفُ أكثرها طولًا من أحدَ عشرَ سطرًا(إنذار خاطئ:95-96) وأكثرها قصرًا من ستّة سُطور(إحتراق:91). يًشير هذا إلى قدرة بلاغيّة مميَّزة ومميِّزة. فهي، بحسب العرب، قادرة على أن تقول أكبر قَدرٍ من المعاني، بأقلّ قدْرٍ من الكلام، نُضيف: وأغزر قَدرٍ من الصّور، بأقلّ قدر من الألفاظ! ما يُثبِتُ أنّ سلموني لا تتسرّع في الكتابة، إنّما تتأمّل، تَتَنخَّل، تُقطّرُ الكلمات، لذلك تبلغنا المعاني وتستقرّ في قلوبنا والوِجدان.
ثامنها الوحدة العضويّة النّمائّيّة. فيُمكن أن نشبّهَ قصائدَها الطّويلةَ، وهي ليست كذلك إلّا لغاية تبلغها، بالشّجرة المُثمِرة. هذه مزروعةٌ في تُربة، يُغذّيها هواءٌ وشمسٌ وماء، وتتفرّع منها أغصانٌ تُزهِر وتُثمِر. والتّربةُ لقصيدة فيكتوريا، هي جذورُها في بيتها والمحيط، غذاؤها الموهبةُ والدُّربة والثّقافة والانفتاح والحرّيّة، أغصانُها الفِكرُ والمعاني والعواطف والانفِعالات، وأزاهرُها البَيانُ الثَريُّ المُثري، والبديعُ العفويّ التّركيب، أمّا الثّمارُ، ففي أرواح المتلقّين وعقولِهم والقلوب. خذ أيّة قصيدة شئتَ، “اعتراف لقارئٍ مجهول”، مثلًا، واخترتُها كونها القصيدة الأولى في الكتاب، فماذا تجد!؟ أثر البيت والمحيط في التّربية (التُّربة)، الموهبة والدّربة والحرّيّة(ألهواء والشّمس والماء)، ألبَيان الثّريّ الموحي(الأزاهر)، أمّا الثّمار، فمعانيها الرّاسخة في النّفوس لا إلى نسيان. إنّها، كسواها في هذا “الدّيوان”، تدخل القلبَ، تؤثّر فيه، وتوحي إلينا بما فيها من خيالٍ وإيقاع وفضاء…
تاسعها نقاوة الّلغة وصفاؤها. فالألفاظ مُقَطَّرة مُشِعّة نازلةٌ في منازلِها، لا يمكن لك استبدالها بمترادفها، وإلّا قصّر المعنى وباخت الصّورة، والتّعابير متينةُ السّبكِ، واضحة الانسياب، حسنةُ الإيقاع. وقصائد “إبحار ضدّ التّيّار” هي إمّا قصائد التّفعيلة، على تنويع في عدد التّفعيلات بين سَطر وسَطر، وفي القوافي، وإمّا على الأوزان الخليليّة الكلاسيكيّة المعروفة. لكن النّوعين يتميّزان بالجِدّة، فكأنّما أنت تقرأ مثل هذه الألفاظ للمرّة الأولى، وتقع، للمرّة الأولى، على مثل هذه التّراكيب الانسيابيّة. لقد طوّعت شاعرتُنا الّلغة، وسّعتها، نقّتها، أحسنتِ استخدامَها بالشّكل المناسب، فبدت لغة جزلةً، سخيّةَ الصّور، رقيقة في مواضع الرّقّة، قويّة في مواضع القوّة، واقعيّة بسيطة أصيلة، وخياليّة مُتْقَنة أصيلة. ألأصالة هي الجامع المشترك بين القصائد كلِّها…
يُضاف إلى هذا استعمال سلموني الأنماطَ السّرديّ،(مثلًا، “حكاية البحّار والجزيرة”، صص23-38) والوصفيّ،(كـ”نقطة ضعف” صص 41-46) والإيعازيّ، (كـ”قل كلمتك.. وامشِ!∀ صص 129−132). لا يعني هذا أنّ القصيدة الواحدة تكتفي بنمط واحد! أبدًا! تختلط الأنماط، في القصيدة الواحدة، كما يختلط أسلوبا الإنشاء والخبر، ما يجعل النّصّ أغنى ألوانًا، وأجمل فنّيًّا، وأكثر تأثيرًا، وأبعد إيحاء! ومن ثمّ نقع على أنواع البَيان، وهذا يشير إلى التّنَوُّع الجميل، وإضفاء الحيويّة والحركة والحياة، والتّلوين الكلاميّ_الأسلوبيّ، ما يحقِّق شروط الأدب النّاجح.
وما لفتني، بعدُ، في قصائد الكتاب، أنّها تُظهِرُ ناحيةً وطنيّة نبويّة(ألا نجد في الشّعر بعض نبوءة)، تقول: ∀أنت الموزَّع بين المنافي وبيني/وبين بلادٍ− رعى الله أحوالَها−/أصبحت جنّة للغريب/وتقتل أطفالَها!!∀(ص103) وناحيةُ تَأثُّرٍ بالبيت والمحيط:∀ نسجتها على نَوْل لهفتنا…∀ فوالدُها كان أحد أشهر حائكي النّول في بلدته: زوق مْكايل الّتي عُرفت بهذا الفنّ. كما تصوّر، بصدق وصراحة، حالات الشّاعرة نفسِها. ما جعلني أذهب هذا المذهب، شيءٌ من التّناقض بين بعض القصائد. أرى أنّ الأمر يعود إلى تقلُّبات النّفس بين حالة وحالة. فمرّة تنتظر الشّاعرة الحبيب، ومرّة تصوّر وجوده الكامل في حياتها، ومرّة غيابه، مرّة تستعطفه، ومرّة تقسو عليه. فالحبيبُ، على رأيي، كان حلمًا منتظَرًا بالشّوق والّلهفة الكاملَين. تستطيع الشّاعرةُ استحضار الحبيب ومخاطبتَه وتصوير حالاتهما معًا، ما يُثبت موهبتَها وبراعتها وقدرتها في هذا المجال.
خلاصةُ الكلام أنّ كتاب “إبحار ضدّ التّيّار” دليل إلى نفسيّة/شخصيّة صاحبته. فالشِّعر تعريةٌ للذّات… لرغبة في الرّاحة النّفسيّة، ومشاركة في الخلق والإمتاع والمُشاركة والتَّواصُل… وهو دعوةٌ غير مباشِرة إلى المساهمة في زيادة الجمال والخير وتقدُّم الحضارة!
ألجمعة 14- 11- 2014