إيلي مارون خليل
(أديب وشاعر وروائي وناقد- لبنان)
I- تمهيد
أعترف:
أنا منحاز. والانحيازُ صفةٌ تبتعدُ بي عن الحياديّة والموضوعية. بل شديدُ الانحياز. وهذا تطرُّفٌ. لكن ليسَ كلُّ تطرّفٍ سيئًا. فهو إظهارٌ مبالَغٌ فيه لما نريد. إظهارٌ واضحٌ، مركَّزٌ، كثيفٌ، لما نُضمره من رغبات، ميول، اتّجاهات… وسوى ذلك، مِمّا يشكِّلُ، في لا وعينا، عالمًا خاصًّا، وهو يتشكّل باستمرار.
قلتُ: إنّي منحازٌ، شديدُ الانحياز، وأعتبرُ هذا ميزةً حَسَنة. أليسَ هذا انحيازًا آخر!؟ وأُفاخرُ!
منحازٌ إلى يوسف حبشي الأشقر: شخصيةً وأدبًا، إذًا: إنسانًا. ولا أميِّزُ، فيه، بين الشّخصيّةِ والفنّيّة. بين الإنسان والأديب. لكأنّهُ أديبٌ “هَبَطَ” في ذلك الجسد، فصفّاه وفيه أقام. يعيشان معًا: أكلاً وشربًا، رغباتٍ وميولاً، أحلامًا وترسُّباتٍ… ومعًا يكتبان! أو لكأنّه جسدٌ “تعالى” إلى ذلك الفنّان، فجذبَهُ وفيه احتمى. يتأمّلان معًا: يتخبّطان، يتناوَشان، يتنافران، يتلاءمان، ومعًا يكتبان!
والآن: هذان الإيضاح والسّؤال:
عالمُ يوسف حبشي الأشقر شاسعٌ، غنيٌّ، كثيفٌ، شفيفٌ، خصيب. عالمُ يوسف حبشي الأشقر حياةٌ، بما في الحياة من بداياتٍ ونهايات، من أفراحٍ وأحزان، من سعادات وكآبات، من صَخَبٍ وهدوء، قَلَقٍ وطُمأنينة، رفضٍ وقبول، تَحَدٍّ واستسلام… بما فيها من شرٍّ وخير، جحيمٍ ونعيم، جهلٍ ومعرفة، غيبوبة ووعي، لا مبالاةٍ ومسؤوليّات، جُبنٍ ومخاطرات… لا تنتهي ملامحُ الحياة، ولا ملامحُ أدبِ يوسف حبشي الأشقر يحدُّها كلام… تكفي إشاراتٌ إليها.. وعلينا الاكتشاف.
كان هذا هو الإيضاح. أمّا السّؤال، فانطلاقًا من هنا: إذًا، فكيفَ نقتحمُ هذا العالَم؟ هذه العوالم؟ كيف نُراودُها، أو نَرودُها؟ كيف يتمُّ الاختيار: اختيارُ ما سوف نتناوله بالكلام؟ ولماذا هذا، تحديدًا، وليسَ سواهُ ممّا يقتربُ منه أو يُناقضه؟
أُسارعُ إلى القول إنّ خياري كان عشوائيًّا، ولم يكن مدروسًا، أو مخطَّطًا له. أشعرُ أنّه خيارٌ لا واعٍ. كأنّه يُقيم فيَّ منذ صِلَتي الأولى بهذا الكاتب، صلتي الجدّيّة الأولى. وها أنا أحدّثُ، بإيجازٍ، عن عالمين اثنين: عالم لغةِ يوسف حبشي الأشقر، وعالم ثنائيّاته، وأُنهي بانطباعٍ أخير.
كانت صلتي الجدّيّة الأولى به عبر قصّةِ “راحيل”. اشتريتُها، صباحَ يومٍ، وأخذتها معي إلى كلّية التّربية، وقرأتُها في حصّتين متتاليتين: الأولى: حصّةِ الحضارة العبّاسية كما يدرّسها دكتورٌ مصريّ، والثّانية فقْه اللغة لمصريّ آخر. أنهيتُها فتساءلتُ: ما سرُّ هذه القصّة؟ أهي الواقعيّةُ، أم الوصف؟ الأحداثُ، أم المفاجآت؟ تلك العلاقةُ الإنسانيّةُ الحميمةُ بين ذلك الولدِ وراحيل، أم تلك العلاقةُ العِدائيّة بين الآخرين وراحيل إيّاها؟ علاقةُ راحيل بالأرض، بالطّبيعة، بالشّجر، بالخصوبة، أم أشياء أُخرُ لا حصرَ لها؟ واستنتجتُ، بسرعةٍ فَرِحة: هذا كلُّه زائد روح يوسف حبشي الأشقر، وقد تراءتْ لي في لغته المفتولة الليّنة، السّائلةِ المتصاعدة، المتشابكةِ المتنامية… وأثمرتْ صلتي هذه. اقتنيتُ، بسعادةٍ دائمة الاشتياق، كتُبَه كلّها، وأحببتُها كلَّها، وقبل أن أقرأها. ألم أقلْ إنّي منحازٌ إلى يوسف حبشي الأشقر!؟
II- لغة يوسف حبشي الأشقر
لا شكَّ في أنّ اللغةَ هي رموزٌ صوتيّة غايتُها التّواصلُ الإنسانيُّ، مُشافَهَةً. واللغةُ، مكتوبةً، رموزٌ بصريّةٌ غايتُها، هي الأخرى، التَّواصلُ الإنسانيُّ، بصريًّا. ما يقودُ، تاليًا، إلى ذاك التَّواصُل: عقلاً، عاطفةً، رؤًى… في سبيل الارتقاءِ عن طريق المعرفة الّتي تنجلي، باللغة. وبقدرِ ما تكونُ اللغة مشغولةً بإتقانٍ عفويّ، بسيط، تصلُ المعاني والفِكرُ والصّورُ والرّؤى، فتستقرُّ بليغةً، مؤثّرةً، موحيةً، إذًا: فاعلة.
أللغةُ، مع يوسف حبشي الأشقر، لا تعبِّر- دومًا- عن معانٍ سابقة، جاهزة، تقف عندها. لغتُه تتفجّرُ عن مَعانٍ كامنة فيها لا يكتشفُها إلاّ القليلون، معانٍ خاصّة جديدة، تحريضيةٌ أكثرُ منها مُطَمْئنة. لغتُهُ تذهب إلى المخاطرة الأبعد. بها يحاولُ اكتناهَ الوجود في محاولةٍ جادّةٍ جريئةٍ، للكشف عنه. فهو شاهدٌ، ويجعل من قارئه شاهدًا بدوره، على الوجود، على الكينونة، كينونةِ الطّبيعة، والإنسان، وكينونة الحوارِ- التّواصُل. كيف؟
لعلَّ أجملَ كلمتَين: ما وراءهما من مسافات. ولعلّ أبهى تعبيرَين: ما بينهما من رؤى. أليسَ هذا ما يتشظّى من بعض عناوين كتبه: “أربعة أفراس حمر” (1964)، “لا تنبتُ جذورٌ في السّماء” (1971)، “ألظِّلُّ والصّدى” (1989)، وما بينها، خارجَ الثّلاثيّة، الكتابُ الخارجُ عن التّحديد، والمُشَكِّلُ علامةً مميّزة: مضمونًا وأسلوبًا: “ألمِظلّةُ والملك وهاجسُ الموت” (1981)؟ وفيه يقول: “هذا الكتابُ هو من أحبِّ الكتبِ إليَّ وأقربِها، غابَ العقلُ عنه وطلع كالصّلاةِ اللاعنة”. من هنا نفهم أنّ ما تحاول الكلمةُ / الكلمات أن تقوله، هو البعضُ القليلُ ممّا تعنيه. يعرفُ كاتبُنا هذا، لذلك هو يحاول “استدراج” الكلمةِ لتشيَ بما يفوق المعنى. وينجح.
لغةُ يوسف حبشي الأشقر نظيفةٌ، مُهَوّأةٌ، مرتاحةٌ، مُريحة. أقرأ: “نادرًا ما يقطفُ زهرةً لذاته، فالزّهرةُ لذاتها، لأمِّها، للطّبيعة، للشّمس، للحياة، لا مقصوصة ومدلّلة في زهريّة مهما غلت وندرت، وإذا قطفها فلواحدٍ من أحفاده؛ فالطّفلُ هو الشّمس والحياة(1)“. وهي لغةٌ تسرد، تصف، تنمو، تتداخل، تتفرّع، تتشابك، تحيا، تُحيي: “ألثّلج يغمر الضّيعة. سمعان، شالُ الصّوف الملفوفُ على رأسه يتدلّى حتّى خاصرته، يُدفئ به كفِّيْه، يتوقّف على العتبة، يده على الباب المفتوح. يرى على البساط، حدّ المقعدِ الأرضيّ، المَنْقَلَ النُّحاسيَّ وكومة الرّماد فيه، وعلى الرّمادِ ركوتا قهوةٍ صفراوان فارغتان، فيُهزّ رأسه ويقول: الحيف عليك. مَنقل للزّينة؟ أين جمره؟ أين نارُه؟ الدّفءُ دون رؤية النّار، ألسنةً حمراءَ، مثل الّذي يراسل حبيبته من غير أن يراها.. (2)” وهي مبتسمةٌ، ساخرةٌ، موحية: “لكنّ حاتم لم يبالِ بالاحتفاء، ولا باليد الممدودة، كانت ثيابُ السُّلطة في داخله أكثر مِمّا هو في داخلها(3)“. أو قوله: “وهو وراثيّ كالخطيئة الأصليّة. لكنّه لا يزول مثلها بالعماد”، أو: “فطعم اللّحم بعد أن يؤكَل يشبه طعم النّدامة(4)“. ولغتُه ملوّنة بألوان الطّبيعة والذّات. تكثر فيها الألوان النفسيّة: الإيمان، الكفر، الحزن، الفرح، الألم، الخوف… “أمّي لم تكن تتركني أقف على حرف الشّبّاك لأتمسّك بالحديد وأتنزّه” ولم يقل: و”أتفرّج”. وقوله: “غير أنّ اتّساخ الحلم، لم يصل إلى الجذور… لم تلبث الدّعسة أن ترنَمت على الدّرب… لكن شيئًا أقوى من صمغ اللوز كان يُلصقني بالأرض فلم أقوَ على الحَراك(5)…”.
ولغةُ يوسف، الأنا منحازٌ إليه، جنسيّةٌ، راقيةٌ، مفترسة، صافيةٌ، متوحّشة: “أنا إسمي مونا، أنسي سيعود… الآن وشوشني أنّه سيعود. زوجي يناديني كالزّوجة، يدُه تحترم جسدي كأنّ جسدي قربان مقدّس. صوتُه لا يلهث معي، بل رائق، يَهْمِس همسًا كأنّه في كنيسة، وأنا بحاجة إلى شرحٍ لا أجده في علاقة قربان بكنيسة(6)…”.
وبعضُ ما لم أقلْه بعد، هو أنّ لغتَه، هي- بعدُ- لغةُ الطّيبةِ والحقد. الحبِّ والكره. حتّى في الكتاب الواحد. فالكاتب يتمتّع بعاطفةٍ صادقةٍ، قويّة، غنيّة، تجعله قادرًا على تصوير مختلف حالات النّفس، وليسَ حالات الطّبيعة فحسب. وهي لغةُ تحقيرٍ، تكفيرٍ، إذلالٍ. فهو يقذف اسكندر الحمّاني بعشراتِ الصَّفات الكريهة، الشّنيعة، على لسان أهل القرية، لأنّه رفض أن يدفعَ لهم ليشتروا سلاحًا للحرب. ألفاظهم تشير إلى كراهيّة، بل إلى حقد. فاسكندر: بشع. كافر. كذّاب. وقح. خنزير. كلب. سافل. خائن. وإنّها لغةُ القلق والتَّوتُّر. لغةُ النّبض السّريع الحيّ الشّديد في وصفه “القدماء” و”الشّباب”، القرية والمدينة، وفي وصفه الحالات النفسيّة في مختلف تناقضاتها؛ كما في حواراته السّريعة، اللاهثة، المكثّفة، في الرّوايات كما في الأقاصيص.
وتبدو لغتُه، في بعض ألفاظها وبعض تعابيرها، عامّيّةً وقريبةً من العامّيّة، ما يخالفُ قاعدةَ البلاغةِ الشّائعة من أنّّها “التّعبير عن المعنى الشّريف باللفظ الشريف”، ولا عيبَ في ذلك، إنّها لغةُ الحياة. وهي واقعيّة، احتماليّة، افتراضيّة، ذهنيّة، اختباريّة، تجريبيّة… في الآن ذاته.
يقول يوسف حبشي الأشقر: “ألكتابةُ جزيرةُ الخلود(7)“، ويقول: “ألتّعبيرُ ليس واحدًا عند الجميع. أنا عن التّعبير المتغيّر أُفتّش، عن الوجوهِ حينما تخلعُ عنها حُلّة التُّراب(8)…”.
صحيح: “ألتّعبير ليس واحدًا عند الجميع”. لكلٍّ تعبيره الخاصّ، وإن بواسطة الألفاظ نفسها. فهي تعني، عند فلانٍ، ما لا تعنيه عند آخر. لكلٍّ خصوصيّتُه الّتي ينقلها إلى لغته أكثر ممّا هو ينقلُها بلغته. هذا يستدرجُني إلى القول: إنّ الكتابة، عند هذا الأديب، تََرََهْبُنٌ ونشوة، كأنه يكتب، مُترهْبناً لنشوته الخاصّة. الحياةُ ناقصةٌ إن خلت من الكتابة. يكتبُ لتكتملَ الحياة. معه: الكتابةُ والحياةُ توأمان. فلغتُه، سَرْدُه، وصْفُه، حواراته، تَعْبَقُ– جميعًا- برائحة الحياة. يتنشّقُها ويفلشها ليتنشّقَها الآخرون. إنّها لغةُ حرّيّةٍ، حرّيّة التّفكير. الرّأي. العقيدة. القول. الحلم. الشّكّ. اليقين. العيش. الحياة. إنّها لغةُ الـ”حرّيّة. ما يريدُه، كاتبُنا، من الكتابة، إلى الحياة، هو فضاءُ الحرّيّة اللامحدودُ، اللانهائيّ. ومنه: حرّيّة الفهم. حرّيّة التّأويل. فلغته، من هذا المنظور، قدرةٌ تحاول الاكتشاف. اكتشاف العوالم: خارجيًّا وداخليًّا. من لغة التَّوجدُن تنبثق عوالمُ الآخر. فالكتابةُ نظرةٌ إلى الدّواخل، ومنها الانطلاق. تبدو الوسط الإنسانيَّ، العالميَّ، حيث تَرقى الحواسُّ بتجاربِها. كما تبدو، كذلك، هذا الّذي به يكونُ للإنسان عالمُه. عالمٌ وليس مجرّد محيط. كلُّ كتابةٍ أفقٌ. رؤيا. تواصلٌ راقٍ ومُرَََقٍّ معاً. أتذكّر: “حدُّه جهنّم اسكندر الحمّاني، تذكَّري كلامي. الّذي يعيشُ وحده، وحده يموت(9)…”. أللغة، الكتابةُ: فعلُ حياة. ألحياة خلود.
III- ألثّنائيّات المتناقضة في عالم يوسف حبشي الأشقر
هذه اللغةُ- الجسدُ- الحياةُ، الّتي أسّست لأدب يوسف حبشي الأشقر، أضاءت عوالمَ هذا المبدع المتباينة.
إنّنا نجد، في أقاصيصه ورواياته، ثنائيّاتٍ أو تعارضاتٍ لافتة. وهي ليست ثنائيّات- تعارضاتٍ ديالكتيكيّة، برهانيّة، تنتهي إلى محصّلةٍ واضحة أو خلاصة ثابتةٍ أو وفاقٍ أكيد؛ إنّما نحن فيها أمام عالمَيْن، أو طرفَين متنازعَين، أبدًا، يبنيان فنّ القصّ عنده: سردًا، وصفًا، حوارًا، بناءَ شخصيّات… من هذه الثّنائيّات أو التّعارضات:
“1- كفرملاّت/المدينة، ولربّما استطعنا، إلى حدٍّ ما، تسمية هذه الثنائية: النّعيم/ الجحيم، أو الطّمأنينة/ القلق، أو ما شابه.
فكفرملاّت تمثّل، في ما تمثّل، التّقوى، إذًا: الإيمان والفضيلة والصّلاة: “نَطَقَتْ بالسُّريانيّة وخطّتها صلوات تُرنِّمُ بها لكلّ مَن صلّى من فقش الموج إلى مرمى الثّلج وظلّت إلى اليوم بها ترتّل وبها تدعو وتتقدّس(10)“. وتمثّل المعرفة والانفتاح: “ثم تكلّمتِ العربيّةَ وكتبتْها، وكان لها بها أقصوصات… وروايات… وجرائد عندما انطلقتْ منها كان غيرُها (لا) يزال يتلعثم بفكّ حروف اللفظة… و… تغنّت بالفرنسيّة وأحبّتها حروفًا مزركشة، وحروفًا بسيطة، في كُتُب ترصُفها كالذّخائر حدَّ أسرّةِ الصِّغار وعلى طاولات الكبار(11)“. وتمثّل الأمومة: “ضيعتي على سفحِها تشبه الأمَّ المفتوحة الذّراعين… لم تعرف سوى الأمومةِ، خلّفتْ أولادًا كثرًا. فثدياها مليئان… وحِضنُها دافئ حنون(12)…”. وتمثّل الجودَ والأصالةَ والفرحَ والصّفاءَ والمحبّةَ والتّعاون والعنفوان.
لكنّ المدينةَ تمثّل النّقيض. إنّها الجحيم بما في الجحيم من كفر وألم وقهر وخوف. فاسكندر- مثلاً- يعيش الخوف، يقول: “لا أجرؤ على الإحساس بالسّعادة خوفاً من انتقام الحياة(13)“. والمدينة عبوديّة، ذلّ، كفر: القرش أقرب مطلق… لو وجدْتُ غيرَ هذا المطلق لركضتُ وراءه، المالُ، القدرةُ على القوّة، على عبادة الأشياء، مقتنياتي، جميعُ مقتنياتي أعبدها… هنالك ربّان فقط، أو طريقتا حياة، هما الله والمال، المطلقُ غيرُ المنظور والمطلقُ المنظور، وما بينهما اختراعٌ من العقل يكذّبه العقل(14)… وهي الكذب والنّفاق والجنس والجريمة والصِّراع… وفي هذا نجد حنينًا إلى الله في القرية: “أيّام كفرملاّت، أيّام الله، أيّام الحماية حين كان يكفيه أن يقول يا ربّ استجب ويستجيب الرّبّ(15)“، وحنينًا إلى القرية نفسها: “لا يعرف ما يحبّ في كفرملاّت. كفرملاّت نفسُها، لماذا؟.. وهو يشتاقها كأنّها كائن حيّ. قد تكون شهوتُه للمنزل، لكفرملاّت، شهوةً للأيّام تلك، شهوةً للعمر ذاك، شهوةً لطفولة وحداثة وما تعنيان(16)… وفي هذا الصّراع مأساة. فالمطلق لا يدوم. إنّه يتحوّل. يتبدّل. حتّى القريةُ ما استمرّت مُطلقًا: أفسدتها الأحزاب. لكنّ الأحزاب بِنْتُ المدينة. وهذا حديث آخر.
“2- ألثّبات/ الحركة أو الاحتماء/الاقتحام. فأنسي لا يثبت. لا يريد، وقد لا يستطيع أن يثبت. يفشّل. يتألّم. لكنّه يحلُم، فيقتحم من جديد. يقتحم أم يحاول؟ يتحرّك أم يغامر؟ يتردّد أم يقرِّر؟ يصبو أم يخطِّط؟ يخيب أم يقلق؟ يخاف أم يجرؤ؟ أقرأ من “لا تنبت جذور في السّماء”: الإنسان الذي يخاف الخيبة، الإنسان الذي يخاف القلق، الإنسان الذي يخاف الحبّ والبغض، لا يمكن أن يطمح إلى السّعادة، لأنّ خوفه يُبعِدُه عن المغامرة… العقل، التحسُّب، الحساب، طرق تؤدّي إلى هدوء، إلى استقرار، ثمّ إلى ضجر وفراغ(17)… “.
ومع معرفة اسكندر ذلك كلّه، يستسلم. ومن قلب استسلامه المنهزم يرى إلى أنسي مثالاً: “هنيئًا لأنسي يستطيع أن يحاول من جديد. هنيئًا له ينسى ما لم يكن، ولا يحقِد عليه، ويقوم من الموت- لعازر الآخر- الّذي يقيمه حبّ قديم كلعازار الأوّل(18)“. ألحياة بالنسبة إلى اسكندر، سلسلة متلاحقة، متواصلة، متشابكة، متفرّعة، معًا، من الخيبات، من الاستقالات، من الانهزامات. لكنّه لا يثبت عند خيبة أو استقالة أو انهزام. يعمل على… يبحث عن… يحلُم بـ… وبشكل دائم. ألثّبات احتماء. ألاحتماء ليس حماية. وليس طُمأنينة. إنّه لُبث متحفّظ. متوهّم. خائف. الاحتماء إقامة في الخوف. والحركة محاولات تستمرّ. قد تكون سلبيّة. لكنّها حركة، عدم ثبات، عدم استقرار، قلق دائم. قلق فكريّ، إيمانيّ، مكانيّ، زمانيّ، وجوديّ. قلق حياتيّ. هذه الحركة محاولات اقتحام، غالبًا ما لا تنجح إلاّ سلبيًّا. يوسف “أربعة أفراس حمر” مثال واضح.
مونا تحبّ رجلاً وتحلُم بآخر. تمثال ميرا في توقها الدّائم إلى الذّكَر، توقِها- جوعِها الجنسيّ إلى الرّجال. تحلُم بجرأة. تتمنّى أن تُنْتَهَك. تقول بصوت عال: “أنسي سيعود وقسرًا سيدخل الملكوت(19)“. حلُمَتْ به، أقتبس: “تصوّرَتْه يدخل الباب كالعاصفة، ودون كلام ينزع عن جسدها الفستان الشّفّاف، يمزّقه وتمانع هي وتمانع، لكنّه يحملها في المدخل، يرميها في الصّالون على السّجادة ولا يفتأ حتّى يدخلها ملكوتاً طالما انتظرتْه(20)…”.
هذه الثّنائيّة، بدورها، تمثّل صراع الذّات في شوقها الأبديّ إلى طُمأنينة لن تتحصّل. إلى حلم لن يتحقّق. من هنا ديمومتُها. وديمومتُها هذه دلالة إلى عدم ثباتٍ عند الكاتب نفسِه. يقول في لقاء مع نادي الشّراع- أنطلياس: “أنا كاتبٌ ما زلتُ أفتّش”.
“3- إذًا هذا يفضي إلى ثنائيّة جديدة هي القَبول والرّفض. ويمكن أن نُطلق عاليها اسمًا آخر مثل: العبوديّة والحرّيّة. يبدو القَبول، في عالم هذا الأديب، نوعًا من أنواع العبوديّة، شكلاً من أشكال الاستسلام. يعانيه أبطالُه ويرفضونه ثائرين ناقمين متحدّين. ألقَبول- العبودية. ألاستسلام موتٌ نفسيّ. ألرّفض عدم استسلام. إذًا حياة. يرفض أبطاله كلّ شيء. ألله. الحزب. المرأة. اليمين واليسار. الحياة…
حول الله يقول أنسي: “لماذا ابتعدْتُ عن الله؟ لأنّه لم بعد يُقنعني. كان بعيدًا جدًّا، عقلي رَفَضه بالرّغم من حاجتي إليه. كان قويًّا جدًّا في بُعده، وضعيفًا جدًّا إذا اقتربتُ إليه..”. وحول اليمين واليسار: إنّهما “كذبة تمثّل غِطاء الطّائفيّة”. والمرأة تجعل الحياة تستمرّ من دون أن تعني شيئًا. تستمرّ بدائيّة، غرائزيّة، حيوانيّة، فالصُّرصور “يفقّس صُرصورًا في عشّه، والجُرَذ جُرَذًا في وكره، والإنسان إنسانًا في بيته(21)…”. وحول الحزب يقول ميشال: “الماركسيّة صارت مطيّة… [ويتابع] من قال لك إنّ اليسار يريد أن تبدأ الدّولة الإصلاحات؟ أليسار يريد أن يعقّد الأمور ويُسيّسَها، كي تعنّد الدولة ولا تُعطي فيزيدُ انزعاج الرّأي العامّ وهذا ما يبتغيه اليسار، ألتّفتيت… [ويستنتج]: المجتمع لا يتغيّر بالحُسْنى، يجب أن يكون هنالك ضغط، ولا شيء يساوي ضغطَ الشّعور بالجريمة(22)“.
ويتحوّل هذا الرّفض إلى رفض بالمطلق، وإن من باب محاولات الوصول إلى خلاص، أيّ خلاص. ولا يتحقّق الخلاصُ هذا إلاّ بالاختيار. فهلّ إنّ الإنسان حرّ؟ أيستطيع الاختيار؟ هذا الاختيار يودّ الأمان والاستقرار. فهل يمكن أن يتحقّقا؟ نعم! بوجود فعل خلاصيّ. فعل مخلّص. فهل؟ يبدو رفض يوسف، في “أربعة أفراس حمر”، مَسافة إنسانيّة. يبدو في محيطه ومقتلَعًا منه في الوقت عينه، يتحمّل، بشقاءٍ سيزيفيّ، ضَعف أهلِه، فكأنّه مدفوعٌ إلى مصير هو غيرُ مسؤول عن اختياره، وعلى الرّغم من أنّه يعرف ماهيّته، ومن أنّه يعيه، ينقذف إليه، إلى مصيره ذاك. فينتحرُ بآلية وكأنّه يتمّمُ حياتَه نِكاية بأحد.
“4- وتتضمّن هذه الثّنائيّة ثنائيّات أخرى عديدة منها: الاختيار/ الانجراف، الحبّ/ الجنس، الإيمان/ الكفر، السّعادة/ الكآبة، الأمل/ الخيبة،… إلى ثنائيّات تنطلق من هذه أو تتفرّع منها أو تتشابك معها وتتقاطع من مثل: الغفران/ الانتقام، الروحانيّة/ المادّيّة، الفقر/ الغنى، المحبّة/ الكره، الخدمة/ الاستعباد، العذريّة/ الشَّبق، وسوى ذلك…
IV- إنطباع أخير
إنّ بعض هذه الثّنائيّات، يحياها أبطال يوسف حبشي الأشقر، الأساسيّون أو الثّانويّون، تشير إلى ارتجاج نفسيّ مثير. لكأنّ نفسيّة الشّخصيّات مصدّعة، متشقّقة من جهة، ومن ثانية تبدو مصطرعةً لا يمكن لها أن تصفوَ وتهنأ. يوسف خليل “يختار” السّجن كمكان آلام ومعرفة، كمطهر. إنّه شخصيّة آليّة مع أمرٍ مثير، مُربِكٍ: تعي ولا تستطيع. اسكندر الحمانيّ يستحيلُ سَوقُه أو تدجينُه، فيرفُض الدّخول في “قصّة” الحرب، فيموت مقتولاً قبل أن يموت يأسًا أو انتحارًا. مونا تحبّ برنار وتحلم بأنسي، وكلُّ شخصيّة تعيش شخصيّتين، لكلٍّ منها وجه آخر. كأنّ العالم مستنقعٌ أو جهنّم.
عبثية؟ مَن يجزِم بأنّها ليست عبثيّة الكاتب نفسه؟ يَبُثُّ ذاته: فِكرًا، رؤى، أحلامًا، اهتماماتٍ… في صفحات كتبه كلِّها. في شخصيّة كلِّ “بطلٍ” من أبطاله شيءٌ منه، وعلى لسانه شيءٌ من كلماته، وفي اصطراعاته شيء من اصطراعه… ما يجعلنا، ونحن نقرأهُ، نقرأ أدبًا حيًّا، أدبًا من لحم ودمٍ وعصب.
قال يوسف حبشي الأشقر في احتفال الحركة الثقافيّة- أنطلياس به: “أريد كلماتٍ تُمسَك، تُحَسّ، لها رائحةٌ ولونٌ وصوت… ألكلماتُ كانت دائمًا مُشكلتي. ألكلماتُ المفاتيحُ الّتي تُصبح شعارات تأكلُ مضمونَها…” أُردفُ: إلاّ على قلمك، يا يوسف! فقد فجّرتَ منها، وفيها، معانيها، حيواتها، فتألّقت حياة. حياة كاملة. حياة حقيقيّة، حرّة، صراعيّة، رافضة، باحثة، كاملة.
وبعد:
أكانَ يوسف حبشي الأشقر، كروائيّ، وطليعيّ، يكتب حياتَهُ، أم كان يؤلّفُها؟ أعاش حياته، أم قصَّها؟
أكانَ يوسف حبشي الأشقر “يُمارس” موتَه في أدبه، أم كان “يصوغُ” حياتَه؟ أم نَقْلِبُ السُّؤالَ: أكانَ يوسف حبشي الأشقر، “يمارس” حياته في أدبه، أم كان “يصوغ” موته؟
*****
(*) جامعة سيّدة اللويزة (NDU) زوق مصبح- الخميس 19/1/2006 في ندوة: “روّاد لبنانيون”، عن يوسف حبشي الأشقر.
ألهوامش
- يوسف حبشي الأشقر: آخر القدماء- ألمكتبة الأهليّة ص 29. لا تاريخ.
- م. نفسه ص 36.
- م. نفسه ص 72.
- م. نفسه ص 99 و131.
- م. نفسه ص 151 و144.
- يوسف حبشي الأشقر: لا تنبت جذور في السّماء. دار النّهار للنّشر. طبعة أولى، 1971، ص 345.
- م. نفسه ص 10.
- م. نفسه ص 8.
- يوسف حبشي الأشقر: ألظّلّ والصّدى. دار النّهار للنّشر، طبعة أولى، 1989، ص 374.
- آخر القدماء: م. سابق ص 5.
- م. نفسه ص 5 و6.
- م. نفسه ص 7.
- يوسف حبشي الأشقر: لا تنبت جذور في السّماء. م. سابق ص 63.
- م. نفسه ص 68.
- م. نفسه ص 94.
- م. نفسه ص 93.
- م. نفسه ص 206.
- م. نفسه ص 26.
- م. نفسه ص 346.
- م. نفسه ص 345-346.
- ألظّلّ والصّدى: م. سابق ص 515.
- م. نفسه ص 347.