بلال حسن التل
(كاتب- الأردن)
هذا هو مقالي الرابع عن حالة الامتزاج التي يعيشها الأردنيون فيما بينهم، دون أن يسأل أحدهم الآخر دينه أو مذهبه. كتبتها في هذا الزمن الرديء الذي يحاول فيه البعض أن يطرح علينا سؤال الدين، ليفرق شملنا ويضعف وطننا، الذي ظل قويا بتماسكنا وبتمازجنا وبوحدتنا الثقافية التي ربتنا على التسامح والاعتدال والوسطية،
وقد حمل المقال الأول من هذه المقالات عنوان «عمي المسيحي»، وكان عمي المقصود في ذلك المقال صديق والدي الذي كان مسيحياً، ولكنه كان لأبي الأخ الذي لم تلده أمه، وهذه واحدة من الشواهد الدالة على الحياة المشتركة بين الأردنيين مسلمين ومسيحيين، باعتبارهم أبناء ثقافة واحدة وشركاء في بناء الوطن بكل مكوناته. وفي هذا المقال أواصل الحديث عن مجموعة أخرى من الشواهد الدالة على أن سؤال الدين لم يكن مطروحاً في علاقاتنا كأردنيين، تربطنا ببعض مسلمين ومسيحيين الكثير من روابط القربى والمودة،منها أن هناك عشائر أردنية يدين جزء منها بالإسلام، بينما ظل جزء آخر منها على المسيحية بالإضافة إلى ذلك فإن علاقة الرحم مازالت قائمة إلى يوم الناس هذه بيننا فما زال المسيحيون أخوال لمسلمين تقوم العلاقة بينهم على ما تقوم به العلاقات بين الأخوال وأبناء أخواتهم من تواد وتراحم ، وهذه واحدة من نتائج ثقافة التسامح والاعتدال السائدة بين الغالبية الساحقة من الأردنيين مسلمين ومسيحيين.
كثيرة هي تجليات ثقافة الاعتدال والتسامح التي تربى عليها الأردنيون، والتي نسجت بينهم حياة مشتركة، جعلت الكثيرين من المسيحيين الأردنيين يصومون مع المسلمين شهر رمضان أو جزء منه، وجعلت من الطبيعي والمألوف أن تقيم الكنائس المسيحية والأسر المسيحية موائد الإفطار الرمضانية لمواطنيهم المسلمين، أو أن يستجيبون لدعوات الإفطار الرمضانية التي يقيمها المسلمون، في هذا البلد الذي فيه مسجد يحمل اسم المسيح عيسى بن مريم، والذي تزين جدرانه آيات قرآنية تتحدث عن مريم العذراء وابنها المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، ولعلنا البلد الوحيد الذي دقت فيه أجراس الكنائس أكثر من مرة لتنبيه المسلمين إلى موعد الإفطار في رمضان، لأن طارئا منع المؤذن من رفع آذان الإفطار.وقبل ذلك تبرع مسيحيون بقطعة أرض لبناء مسجد عليها، شارك شباب مسيحيون متطوعون في بنائه. تماما مثلما يتشارك المسلمون والمسيحيون في جاهات الخطوبة والصلحات العشائرية مثلما يتشاركون قي تقبل العزاء في الميت الواحد باعتباره فقيدهم المشترك, في واحدة من أهم تجليات الثقافة الواحدة في حياتنا اليومية المشتركة، التي لا نفرق فيها بين المسلم والمسيحي، فكم من مسيحي سمى ابنه باسم مصطفى مثلما هو الحال مع بطرس حمارنه، والد النائب الدكتور مصطفى حمارنه وكم من مسيحي أطلق اسم عمر على ولده تقديراً واحتراماً للفاروق عمر، كما هو حال ميشيل حمارنه، وكم من مسيحي سمى ابنه بعلي حباً بالإمام علي بن أبي طالب، كما هو حال الكاتب الكبير طارق مصاروه، بالمقابل فإن من المسلمين من سمى ابنه بطرس ومن المألوف أن يكون اسم المسلم عيسى، والمسلمة مريم أو عذراء، والأسماء كما هو معروف من أهم التعبيرات عن ثقافة أصحابها, وهي الثقافة التي تجاوزت عند الأردنيين مظاهر الحياة العامة ومكوناتها إلى الحياة الشخصية التي ارتبط بها الأردنيون مسلمين ومسيحيين بعلاقات شخصية حميمة على الصعيد الفردي، وقد تحدثت في مقال سابق عن علاقتي بالأستاذ فهد قاقيش مشرف مركز شباب اربد، الذي تعرفت من خلاله بالأستاذ أكرم مصاروه، الذي كان يومها مشرفاً على مركز شباب مادبا، ومازالت علاقتي به ممتدة إلى يوم الناس هذا، أمد الله في عمره.وعمر سائر أصدقائي المسيحيين وهم كثر منهم الأستاذ ميشيل حمارنه الذي ربطتني به علاقة وثيقة ممتدة لأكثر من ثلاثة عقود، تعاونا خلالها في الكثير من المحطات، خدمة لبلدنا وتوضيحا لصورته، خاصة عندما كان هو مديراً عاماً للسياحة، وكنت أنا في الإعلام التنموي، ثم زادت علاقتنا متانة عندما جاء هو إلى الإعلام، وظلت كذلك إلى يوم الناس هذا،وأشهد أن هذا المسيحي الأردني العروبي يعتز برسول الله محمد أكثر مما يفعل الكثيرون مما يحُسبون على الإسلام بشهادة الميلاد، وهو بهذه ليس حالة فريدة بين المسيحيين العرب والأردنيين منهم على وجه الخصوص. ومثل العلاقة التي ربطتني بميشيل حمارنه كذلك كانت علاقتي بالدكتور كمال الشاعر الذي كنت استشيره في الكثير من المسائل العامة حتى لحظة وفاته. مثلما ربطتني علاقة قوية بشقيقه الدكتور جمال الشاعر حتى وفاته هو الآخر. وكذلك هو الحال مع الصديق والزميل عوني بدر وغيرهم كثير.
كثيرة هي العلاقات الحميمة بين الأردنيين مسلمين ومسيحيين، وهي أمر طبيعي وتلقائي لديهم، فلماذا يريد البعض أن ينشر بيننا ثقافة مراحل الانحطاط الحضاري التي تبرز فيها الهويات الفرعية، فتبرز الجهوية والمذهبية والطائفية فتمزق المجتمعات، وهو مالا نريده أن يقع في مجتمعنا الذي قام على التعددية وعلى الأخوة وعلى المواطنة الحاضنة للجميع، وعلى الثقة وحسن الظن بين شركاء الوطن الواحد، الذي نريده سكناً دائما للأسرة الأردنية الواحدة وإن تعددت أفكار ومعتقدات أبنائها، فالأسرة لا تتبرأ من بعضها وإن اختلفت رؤى أفرادها.