بلال التل
(كاتب- الأردن)
ولدت وتربيت في بيت أبي الذي كان من أنشط الدعاة الإسلاميين، ومن أغزرهم إنتاجاً في مجال الفكر الإسلامي، وقد عُرف أبي بشدة غيرته على دينه وبشراسة دفاعه عن حياض هذا الدين، وكان معروفاً بغضباته «العمرية» دفاعاً عن حدود الله وتعاليم دينه. وبهذه الصفات التي كانت تحكم تصرفاته وعلاقاته كان لوالدي صديقان حميمان كنت أنادي الأول بعمي «أبو سعد» وأنادي الثاني بعمي «أبو مروان»، وكان ثلاثتهم لا يفترقون عن بعضهم في تلك المرحلة من مراحل عمري المبكرة. لذلك كان بعض معارفهم يسمونهم «بالفرسان الثلاثة» لشدة تلازمهم.
ومع الأيام عرفت أن عمي «أبو سعد» الذي كان شديد التدين، كان من الأسماء المرشحة لخلافة الحاج عبد اللطيف أبو قورة في موقع المراقب العام للإخوان المسلمين، لولا أنه اعتذر عن ذلك وآثر الجماعة على نفسه, يوم كانت جماعة الإخوان المسلمين جماعة دعوية, وكان رجالها يتجردون لله ودعوته، ويحملونها إلى الناس على حقيقتها.
ومثلما عرفت من هو عمي «أبو سعد» فقد اكتشفت أن عمي «أبو مروان» مسيحي، ورغم ذلك فقد كان يشكل العمود الثالث في مجموعة الفرسان الثلاثة التي ارتبطت بعلاقة إنسانية حميمة. جعلتني فيما بعد لا استغرب عندما يعرفني الأب نبيل حداد على أني ابن عمه, وهو تعريف يذكرني أن في بلدنا عائلات وعشائر تتوزع الواحدة منها بين الإسلام والمسيحية, ولا غرابة في ذلك, فعندما إنساح الإسلام في هذه البلاد أسلم بعض أهلها, وظل بعضهم الآخر على دينه, لكن الجميع ظلوا عرباً يدافعون عن بلادهم تحت راية العروبة, لذلك إنحاز الكثيرون من العرب المسيحيين إلى جيش الفتح الإسلامي في الكثير من معارك فتح الشام, مثلما إنحازوا إلى جيوش بلادهم خاصة في عهد صلاح الدين لمقاومة الفرنجة, وظل أهل هذه البلاد على اختلاف أديانهم ومذاهبهم أبناء ثقافة واحدة وتاريخ واحد وعادات وتقاليد واحدة, تصهرهم بعلاقات حميمة, لذلك فإن أبي وعمي «أبوسعد» وهما شديدي التدين ويفهمان دينهما على حقيقته، لم يكونا بحاجة إلى فتوى لبناء علاقة إنسانية حميمة مع مواطنهم المسيحي «أبو مروان» وكانا يشاركانه في كل مناسباته الاجتماعية،مثلما كان هو جزءا أساسيا من مناسبتهما الاجتماعية، ففوق أنهم الثلاثة أبناء ثقافة واحدة وتقاليد وعادات واحدة فقد كان أبي وعمي «أبو سعد» في علاقتهما بعمي «أبو مروان» يتأسيان برسول الله عليه السلام، الذي كانت أم ولده ماريا القبطية, وهو القائل «استوصوا بالقبط خيراً فإن لهم ذمة ورحما» ومعروف كم هي عظيمة مكانة الرحم والذمة لدي العرب عموماً, وأى مكانة أنزلهما الإسلام بهما, ولعلنا جميعاً نذكر انتصار الفاروق عمر بن الخطاب للمواطن المسيحي المصري, على ابن الوالي المسلم العربي الصحابي عمرو بن العاص, فالأصل في الإسلام هي علاقة المواطنة القائمة على العدل والمساواة بين الناس.
لم يتوقف رسول الله عند حدود التوصية النظرية خيراً بالمسيحيين, فمن المعروف أنه عليه السلام أمر صحابته بالهجرة إلى الحبشة وطلب حماية ملكها النجاشي المسيحي شديد المعرفة بمسيحيته, بعد أن كان أول من بشر بنبوته عليه السلام راهباً مسيحياً, كما تؤكد ذلك كتب السيرة. وكل من يقرأ القرآن الكريم يعلم كم حزن المسلمون عندما انتصر الفرس المجوس على الروم المسيحيين في أحدى معارك الحروب التي كانت مستعرة بينهما,حتى أن الله عزوجل أنزل قرآناً كريماً للتخفيف على المسلمين حزنهم بانتصار المجوس على المسيحيين مبشراً لهم بنصر المسيحيين «غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون», وكثيرة هي الشواهد من السيرة النبوية على العلاقات الإنسانية التي قامت بين رسول الله وبين المسيحيين وغيرهم من أهل الكتاب حيث كان عليه السلام يشارك جيرانه من أهل الكتاب مناسباتهم، مثلما اقتسم عليه السلام مسجده مع وفد نصارى نجران الذي جاء يحاوره، مثلما أنه عليه السلام هو الذي علمنا القرآن الكريم الذي جعل طعام أهل الكتاب حل لنا, وأبلغنا عن ربنا أن النصارى هم الأقرب مودة لنا. مثلما أوصانا عليه السلام وخلفائه من بعده بالقسس والرهبان وبكنائسهم وبصوامعهم ومعابدهم. وقبل ذلك كله فإن الإيمان بعيسى عليه السلام جزء من عقيدتنا كمسلمين لا تصح بدون هذا الإيمان, كما أن القرآن الكريم علمنا أن مريم هي سيدة نساء العالمين التي اصطفاها الله عليهن جميعاً, وأنزل باسمها سورة من سور القرآن. ولم يفعل ذلك مع غيرها من النساء بما فيهن أمهات المؤمنين من زوجات الرسول وبناته.
أجزم بأن هذه القيم السماوية العظيمة التي تجسدت سكوكاً ووشائج اجتماعية متينة هي التي مكنت أبي وعمي «أبو سعد» وعمي «أبو مروان» من بناء علاقتهم الحميمة،التي شكلت انعكاساً مصغراً لطبيعة العلاقات الاجتماعية المتشابكة بين الأردنيين، والتي بنيت على ثقافة مشتركة جمعتهما بعد أن تشاركا في بنائها وهو ما سنعرض له في مقال لاحق.