إيلي مارون خليل
(أديب وروائي وشاعر- لبنان)
يُقسَم موضوعُنا هذا قسمين: ألشّعر، أو الأدبُ، إجمالًا: ماهيّةً وتحديدًا ومميّزات ودورًا وأهمّيةً ورسالة إلخ… وثان: ألتّكنولوجيا، ماهيّة وتحديدًا ومميّزات ودورًا وأهمّيّة ورسالة… وتاليًا، ما العلاقة الّتي يمكن أن تكوّن الرّوابطَ بين الشّعر والتّكنولوجيا، وكذلك نقاط الاختلاف؟
أوّلًا: في الشّعْر:
لا شكّ في أنّ الّذين بحثوا في الشّعر وأحواله وشؤونه، كثيرون، منذ الزّمن الأكثر قِدَمًا حتّى اليوم. وقد كان من بينهم الفلاسفة والشّعراء والأدباءُ والفنّانون، ولربّما النّاسُ العاديّون أيضًا. هذه ظاهرة غير عاديّة. إنّنا لا نجد فنًّا، أيَّ فنٍّ، سالت كمّيّةٌ من الحبر توازي تلك الّتي أسيلت حول الشّعر لأسباب متعدّدة ومختلفة.
ولعلّ من هذه الأسباب كون الشِّعر أكثرها قِدَمًا، إذ ظهر كصلواتٍ للآلهة ، وأناشيد، في الخوف منها واتّقائها وطلب غفرانها. ومنها، أيضًا، أنّ الشِّعر هو الفنُّ الأكثر التصاقًا بالذّات، والأكثر تعبيرًا عنها، والأكثر صدقًا.
1- محاولات لتحديد الشّعر:
ولقد حاول الكثيرون تحديد هذا الفنّ الجميل؛ قال أفلاطون إنّ الشّعراء يُضِلّون ويغوون، لذلك طردهم من “جمهوريتـه”، لكنّ أرسطو قال:” إنّ الشِّعر فنُّ المَجاز”، وفي الحقيقة، إن لَفي هذا القول بعض الحقيقة. يكاد لا يخلو بيتٌ شِعريّ جميل، من صورة، أو أكثر.. وبقدر ما تكثر الصّور، من دون اصطناعها، تكون القصيدة جميلة.
اِنتقالًا إلى العرب الّذين كان الشِّعر ديوانَهم في حلّهم وترحالهم؛ وقد حاول كثيرون، نقّادًا وفلاسفة ولغويّين وموسيقيّين وعلماء وشعراء تحديدَه، فقد جعله البُحتُريّ لُمَحًا تكفي إشارتها وليس بالخطب طُوِّلتْ تشرح! وقد ركّز في الوصف والإيقاع… فالمتنبّي الّذي عمل على القوّة والعظمة، أسلوبًا وتراكيبَ وصُورا، إلى المعاني النّادرة الكاشفة عن ثقلفة فكرية وشخصيّة مميّزة. وكان سبق شعراءُ وِجدانيّون كبار من مثل أبي نوّاس الّذي رأى أنّ الشِّعر صراخُ نفسٍ أوجِعت، فغنّت بأوجاعها لتستريح. إلى الغربيّين في نهضتهم الكبرى، وهي في جزء منها، تقليد لليونان والرّومان؛ فالنّهضويّون، عندنا، من مثل أبي شبكة:”أعذب الشِّعر أصدقه”، معارضًا الشّعراء العرب الّذين اعتبروا أنّ “أعذب الشعر أكذبه!” إلى جبران ونعيمة والرّيحاني، إلى يوسف الخال وأنسي الحاج وأدونيس وغالي شكري وسواهم…
هذا، ولم يتّفقوا على تحديد موحًّد، ثابت، نهائيّ، موضوعيّ، علميّ… ذلك أنّ النّظرة إلى الشِّعر تبقى خاصّة من منطلق ذاتيّ: غاية وجوهرا وميّزات، وثقافة، وبيئة، وشخصيّة!
لكنّنا، كمتتبّعين لمحاولات تحديد الشِّعر، هذه، نستطيع ان نستنتج منها التّحديدات الآتية:
* فنٌّ جميل وسيلته الكلمة المُوَقَّعةُ، مطرَّز، عفويًّا، بالبيان، مليء بالصّور، يعبّر عن خوالج النّفس، بما فيها ولها، من نوازع واتّجاهات، وما تعاني…
* خلاصة حضاريّة، فرديّة، جماعيّة، موقَّعة، غنيّة بالمجاز…
* خلاص الرّوح ممّا تعاني كشؤون الحياة: حياة، موت، فرح، حزن، حبّ، كره، قوّة، ضعف، شجاعة، خوف… إلى ما هنالك من ثنائيّات متآلفة أو متناقضة…
* نبض النّفس حيًّا، عاصفًا أو نسيمًا، لكنّه كلّ مرّةٍ، فنّيّ جميل، هادفٌ إلى إحياء هذه النّفس المُعانية…
* سجلّ النّفس الإنسانيّة في مختلف هواجسها ومكنوناتها والحالات…
فماذا نلاحظ، أو ما الجامع بين هذه التّحديدات الّتي تخرج عن القديم؟
إنّ نقاطًا عديدة تجمع بينها، منها أنّ الشّعر رؤيا كاشفة، قنديل للمستقبل، منديل للذّاكرة، ألمجاز، ألإيقاع: داخليّ ونفسيّ،.. والأكيد أنّه لا يُمكن أن يُحصَر البحر في كشتبان، أن يُضَيَّق على الحياة بخناق! إذًا لا يُعقَلُ أن نحدّد الشّعر تحديدًا شاملًا جامعًا نهائيًّا…
هل الشِّعر رسالة؟
لن أقدّم إجابة “شعرية” بل واقعيّة.
كان الشّاعر الجاهليّ صوت قبيلته، وصوت نفسه المعانية، كما صوت الواقع النّفسيّ ـ الاجتماعيّ ـ الجغرافيّ… وفي العصر الإسلاميّ، كان صوت الدّين الجديد، أي خادمًا للدّعوة مبشّرًا بها. وفي العصر الأمويّ كان، من جهة، صوت ذاته، ومن ثانية، صوت جماعته: قبيلة ودولة. وسيطرت، في العصر العبّاسيّ، ذات الشّاعر، إجمالا، على الرّغم من المديح. نستنتج أنّ الشّاعر العربيّ، على امتداد العصور، غنائيّ بامتياز، ما يعني، تاليًا، أنّه ذو غلبة وِجدانيّة، فكان، بذلك، رسول ذاته أو جماعته: أناه الكبرى! فهو إذًا رسول وشِعره رسالته!
إنّه رسولٌ؟ نعم وأيّما رسول! رسولُ نفسِه فكرًا ورؤى وعاطفة. ورسول شعبه وقائده. في كونه رسول نفسِه واقع وواقعيّة. هو لا يدّعي، هنا، ما ليس منه وله. هو، وعفوًّا، ينضح بما يحتوي. وكرسول وقائد، هو يطمح إلى الكثير، ينطق باسم الجماعة، ويوجّهها، وفي ظنّه أنّه المنقذ المنتظَر.
ثانيًا: ألتّكنولوجيا
ما لا شكّ فيه، في هذا المجال، أنّ التّكنولوجيا الحديثة ضرورة إنسانيّة واجتماعيّة وثقافيّة وحضاريّة، لا أحد يُنكر لها دورها هذا، إنّما يُقرّون به، معترفين بأهمّيته وبقيمته، وبالنّقلة النّوعية الّتي تُحدثُها التّكنولوجيا على صعيد الحياة.
ومن الواضح أنّ حاجتنا، اليوم، ضروريّة جدًّا إلى التّكنولوجيا المتطوّرة. فالحياة إلى تطوّر مستمرّ، ولا رجوع إلى الوراء. ونحن، كأناس معاصرين، نفخر بهذا التّقدّم التّكنولوجيّ، ونتوقّع دورا بارزًا يُسهم في تقدّم المجتمعات، بخاصّة المجتمعات الّتي تعرف كيفّيّة الاستفادة.
محاولات لتحديد
ألسّؤال الآن: ما هي هذه التّكنولوجيا؟
أرى أنّ التّكنولوجيا مجموعة اختراعات علميّة متطوّرة مطوِّرة، يحتاجها الإنسان أينما كان. لكنّ المهمّ أن يستطيع التّحكّم بها، لئلّا تسيطر هي عليه، فتتحكّم به وتسيّره، فيصبح خاضعًا لها، بدل أن يكون سيّدًا. فينقاد بدل أن يقود. ويُستعبَد بدل أن يكون حرًّا.
من هنا، أنّنا ننظر نظرتين متناقضتين إلى التّكنولوجيا، أولى إيجابيّة، وثانية سلبيّة. هي، إذا، ذات وجهين، فدورَين.
ألأهمّيّة والدّور
من الجهة الأولى، أعني الوجه الإيجابيّ، ماذا يمكن أن يكون هذا الوجه، وماذا يحمل إلى المجتمع؟
يحمل هذا الوجه ما يمكن أن نسمّيه “نعمة”، بالنّسبة إلى العصر.
تقوم هذه “النّعمة” في كونها تطوّر الذّهنيّة، بدءًا، وانعكاس ذلك على الحياة العاديّة اليوميّة. تَطَوُّر الذّهن يوسّع المَدارك، يُشْرِع الأبواب أمام الفهم والإدراك، وتاليًا يطوّر نوعيّة الحياة على كلّ صعيد. وتكون “نعمة” حقيقيّة، حين تجعل الإنسان سيّد نفسهِ وسيّد اكتشافاته وسيّد الآلة، فيستخدمها ولا تستخدمه!
وهي “نعمةٌ” حين نطوّع الآلة، الكومبيوتر مثلًا، لرغبتنا، لخدمتنا، نستخدمه لإفادتنا، حين نريد، قدْر ما نريد، في الموضوع الّذي نريد. فإن اتُّخِذنا به، وانجررنا من خلاله، وراء ما لا فائدة منه وفيه وله، نُصبح سُجناء مسيَّرين، فاقدي الوعي والإرادة، فلا يُعتدّ به، وإذا هو عالة لا عامل!
والسّيّارة “نعمة” حين هي توفّر الوقت لنا، والعناء عنّا، فلا نُسرع كي لا نتعرّض، ونعرّض الآخر، لخطر الموت. والطّائرة “نعمة”، والدّواء والإنترنت… حين نُحسن استعمالها، ومنها نستفيد.
وقد لا يكون الأمر “نعمة” بل يكون “نقمة”! مثال ذلك انسياق الأطفال والأولاد والمراهقين وراء الإنترنت، لا بحثًا عمّا يُفيد ويثقّف ويُغني، بل وراء ما هو النّقيض. فكم من تلميذ وصل صباحًا إلى صفّه مرهَقًا نعِسا يعجز عن التّركيز، فلا يفهم ولا يستوعب… ويضيّع عمره… والأمثلة كثيرة حول إمكانيّة حدوث ما هو وجه سلبيّ في التّكنولوجيا.
بين الشّعر(الأدب) والتّكنولوجيا
بات بين الشّعر والتّكنولوجيا علاقات وثيقة وروابط مميّزة، هي الأخرى، إيجابيّة وسلبيّة، سأكتفي بذكر الأمور الإيجابيّة، فحسب، لأنّني أريد لها أن تثبت في ذهن القارئ فتفعل فيه تأثيرًا وإيحاء.
دخلت الإنترنت عالم الأدب، شِعرًا ونثرًا. وأصبح الشّعراء يستخدمونها في نشر نتاجهم، ليصل إلى أكبر شريحة ممكنة من زوّار الموقع أو الفايس بوك. وقد أوجد شعراء كثيرون مواقع خاصّة بهم، يعلنون عبرها عن جديد، وينشرون القصائد، وهكذا تصل إلى خارج جدران الكتب الّتي قد تكون منسيّة في أمكنتها على رفوف المكتبات طعامًا لغبار الإهمال والنّسيان.
تَعَرّفْنا شعراء كثرًا على الصّفحات الإلكترونيّة. وإنّ شْعرهم، هنا، وصل، وسيصل إلى قرّاء كثر، ما يُسعِد الشّاعر لأنّه يُساعده في الانتشار، إذ يوصله إلى قرّاء جدد، قد لا يكون الكتاب في مجالات اهتماماتهم، ينصرفون، حينذاك، إلى مواقع الشّعراء الغنيّة بأنواع شعرهم وتلاوين بيانهم وغنى معانيهم وخصوبة صورهم… ما يجعل القارئ يتفاعل مع ما يقرأ، وتاليًا قد يكتب تعليقًا، فيكون هذا التّعليق بادرةً لحوار مُثرٍ وخلّاقٍ.
وفي الإنترنت، أيضًا، نفتّش عن كتّاب عالميّين، أو شعراء، نكون قرأنا لهم، أو عنهم، وأحببناهم فنتعرفهم أكثر ونحبّهم أعمق، وقد نقيم معهم حوارًا متواصلا، فنصبح أصدقاء عبر الإنترنت، نتبادل الآراء ووجهات النّظر، بها نغتني وقد تُغني الكتّاب أو الشُّعراء، ما يرفع من مستوى الفكر وصدق العاطفة وألوان الخيال.
خاتمة
إنّ علاقة فنّ الأدب، عمومًا، والشِّعْر خصوصًا، بالتّكنولوجيا، علاقة تبادع فكريّ عاطفيّ حضاريّ يمكن له، إن أحسنّا استخدام التّكنولوجيا، أن يكون أفضل عامل، والأسرع، في سعادة الشّعوب وتَرَقّيها، وبناء سلامها وتمكين طمأنينتها، إذ لا تخرج البشاعة عن الجمال، ولا ينتج الشّرّ عن الخير…
والإنترنت خدمة للفنون كلِّها، وليس لفنٍّ بذاتِه. توصل الشّعر أو الموسيقى أو النّحْت أو… إلى الأقاصي، إلى شعوب العالَم بسرعةٍ قياسيّة، ما يُسهِم في نَشر الثّقافة في وقت قياسيّ، وهذا، بدوره، يرقى بالأفراد، كما بالشعوب، بالسّرعة القُصوى… وتاليًا تتوحّد الثّقافات والحضارات، كما يمكن أن يستمرّ الصّراعُ، صراعُ الحضارات، فتستفيد ثقافة من ثقافة، وحضارة من أُخرى، أو تطغى ثقافة أو حضارة على ثقافة أو حضارة، لكنّها في الختام، بنت العقل وبنت العاطفةِ معًا! وكلاهما يمكن أن يتحكّم بالإنترنت، أو… هي تتحكّم فيضيع كلُّ شيء! وإذا العالمُ بلا روح!…
وهذا ما لا يرغب فيه أحد!
(حزيران 2015)