ألطّهارة
إيلي مارون خليل
(أديب وروائي وشاعر- لبنان)
ومن القِيَم، يا بني، واحدةٌ قَيّمةٌ، ساميةٌ، دينيّة اجتماعيّة إنسانيّة، تُشير إلى رُقيّ مُمْتَلِكِها ورِفعتِه وأخلاقيّتِه… هي الطّهارةُ! فما هي؟ ما حدودُها والآفاق؟ ما قيمتُها؟ ما دورُها؟ هل من السّهل التَّمَيُّزُ بها؟ كيف، ولماذا؟ وأسئلة أُخرى تشتعل في الذّهن!
لا شكَّ، بدءًا، من الاعتراف بأنّ الطّهارةَ فضيلةٌ ونعمةٌ تستوطنانِ نفوسَ نُخبةٍ من النّاس وعقولَهم وأفكارَهم والقلوب. يكون هذا انطلاقًا من النّوايا والأحلام والأمنيات والرّغائب. فصفاءُ النَّوايا يستدعي صفاءَ النُّفوسِ، وصفاءُ النّفوسِ يستدعي صفاء النّوايا! صفاءٌ بصفاء، فإذا الإنسانُ أكثرُ ما يمكن قُربًا من الله! والمُتَّصفُ بصفاء النَّوايا، كانت أحلامُه نقيّةَ الصّفاءِ، صافيةَ النّقاء؛ وكذلك الأُمنياتُ والرَّغائب. وإذا هو سامٍ “على صورة اللهِ ومِثالِه!” وهو لهذا كُوِّن ووُلِد، وينبغي الاستمرار!
وعليه، بُنَيّ، فالطّهارةُ مِثالُ النّورانيّة النّفسيّة الرّوحيّة الأبعد رُقيًّا، تنعكسُ على الجسد اتّجاهات وتَصَرُّفات، تنفيذًا للنّوايا، للأحلام، للأُمنيات، للرّغائب؛ وإذا المَرْءُ كِيانٌ شَعْشَعانيٌّ متكامِلُ الانسجام، منسجِمُ التَّكامُلِ: اتّجاهات، وتَصَرُّفات… نحو المِثال. يزول المِثال؟ ينهدّ الكِيانُ الجسديّ النّفسيّ، يتزعزع الانسجام، تتهرّأ الوحدةُ المتكاملةُ الانسِجام، المُنسجِمةُ التَّكامُل!
والطّهارةُ، بعدُ، خلوُّ النّفس من أيّ لطخة، أيّ شائبة، أيّ شرّ، سوء، خطإٍ، خطيئة، إنحراف، نقصٍ… ما يجعلها تتخلّع، تتهاوى، فينقص الخيرُ، الحقُّ، الجمال… ما يُشَوِّه هذي النّفسَ، فيشارفُ اللهُ الحزنَ! ألنُّقصانُ، هذا، نُقْصانُ الخيرِ، الحقِّ، الجَمالِ… سبيلٌ، سريعٌ، نحو الحُزن، حزنِ الإنسانِ السّامي، وحزنِ الله! وهذا ما يجب تَفاديه بكونه تَشويهًا مُخْزِيًا للمِثال الواجب بقاؤه، تأبيدُه.
فهي، إذًا، ليست مفهومًا دينيًّا، أو نفسيًّا، فحسْبُ! بل هي، أيضًا، وفي الوقت عينِه، مفهومٌ فكريّ فلسفيٌّ اجتماعيٌّ وجدانيّ!
أمّا حدودُها والآفاقُ، فغيرُ نهائيّة، طالما أنّها قيمةٌ ونِعمة! وطالَما أنّها مفاهيم فكريّة وفلسفيّة ونفسيّة واجتماعيّة ووِجدانيّة! فهذه، كلُّها، غيرُ محدودةٍ. تنفتح، هي، على كلّ اتّجاهٍ، كلِّ أفْقٍ. فلا نهاية للاتّجاه، ولا حُدودَ للأفق. ما يُثبت كونَها قيمةً، نعمةً، أنّهما، معًا، بغير حدود، لأنّها من الله تهلّ، واللهُ لا محدودٌ رغبةً ولا قدرةً!
وتاليًا، ما قيمتُها، الطّهارةُ؟ وما دَورُها؟
قيمةُ هذه النّعمة بكونها نعمة! لكنّها أكثرُ تَمَيُّزًا. كيف؟
ألنّعمةُ، أساسًا، موهبةٌ من الله، نُوهَبُها. تولَدُ معنا وفينا. فلا نقرّر الحصول عليها، بالحلم ولا بالإرادة. فلسنا نتعب في سبيل اكتسابِها. ولا نجعلها هاجسًا نفكّر فيه ونرغب في تحقيقه. لكنّ الطّهارةَ نِعمةٌ تُكتَسَبُ، بالكَدّ، لا توهَب بالفطرة. بالقَصْد الثّابتِ، بالرّغبةِ الفائقةِ المُتَخَطّية الصّعابَ كلَّها. نحن نُصارع أنفسَنا لأجلها. نصارع ضعفَنا، ميولَنا الانحرافيّة، لذائذَنا، مادّيّاتِنا، صراعًا صعبًا، وضاريًا، ويوميًّا. في هذا الصّراع قيمةُ هذي النّعمة!
ويكمن دورُها في ترقية النّفس، في تصفيتها، في انجذابها نحو الكمال. ألطّاهرُ، حقًّا، بعيدٌ من المادّيّة. بعيدٌ من السّير وراء ما يحطّ به. ألطّاهرُ، حقًّا، صافٍ صفاء الضّمير النّقيّ، مُشِعٌّ كهالة قدّيس عجائبيّ. يحيا في “غير هذا العالَم.” يحيا مستقِرًّا، في قلب الله!
صحيحٌ أنّ التَّمَيُّز بالطّهارة صعبٌ، لكنّه جميل. جمالُه في الصّعوبة. هي تفترض تحدّيًا، للذّات، دائمًا. وحين يَنجح التَّحَدّي، يجمل الفِعلُ والنّتيجةُ والغاية. يَشعر المَرءُ بأهمّيّته، فيستمرّ يتحدّى، يستمرّ ينجح. تجمل الحياةُ!
ألطّهارةُ! الطّهارة! يا بني! عليك بها، طهارة فكر ونفس ورغبة وغاية… طهارة قول وفعْل! طهارتُك، أضاف أبي الخوري مارون، طريقُك إلى السّوى، لكنّها، كذلك، طريقُك إلى قلب اللهِ، وفِكْره! وطريقُ اللهِ إليك، قلبًا وفكرًا!
ألطّهارةُ بدءُ القداسة! أنهى أبي!
هنيئًا لنا بك، “بونا مارون”، قدّيسًا مذ كنتَ بيننا، ولا تزال!
ألاثنين 20-5- 2016
www.eliemarounkhalil.com
e-mail: elie.khalil@hotmail.com
غذاء للروح , شكرا ايلي م خليل .
من ذوقك،يا صديقي!
من ذوقك، يا صديقي!