مصرع أيديولوجيا اليسار على أرض العرب

الطلياني واللاز وجهان لعملة واحدة

(الفصل الثالث)

abou younes al tayeb

أبو يونس الطيب

(أديب- الجزائر)

انعكاس الفشل السياسي في كتابات الأدباء اليساريين العرب.

فاليساري العربي الذي يؤكد أحدهم بالقول “قلَّما تُصادف يساريًّا إلا وتجده يعتقد في نفسه بأنه المفكِّر الإيطالي”، “أنطونيو غرامشي”   اعتمد على ترجمة الفكر الشيوعي الغربي دون زيادة أو نقصان وشرع يطبقه على واقعه العربي محاولا صناعة الثورة دون أن ينتج فكريا ثوريا يتماشى وواقعه المعاش ولأن النضال السياسي لليساريين في العالم العربي لم يفلح البتة فقد تحول نزوع الطبقة المثقفة داخله إلى انتقاد الأنظمة القائمة  حتى صار مجرد مرض مهني مثلما عبر “ريمون أرون “.

وهكذا  ظل اليساري العربي يراوح مكانه فوجد نفسه بين نفور شعب ذي انتماء إسلامي مخالف تماما لمنظومتها الفكرية وبين إغراءات أنظمة ديكتاتورية تحكم باسم  الاشتراكية والوطنية فاستهوت أكثرهم وهكذا تحولوا من ثوريين راديكاليين إلى مدافعين عن الأنظمة ومثيري شائعات ضد أصدقاء الأمس متخذين من التنظير الثوري القومي والإسلامي عدوا لدودا للإنسانية خاصة وأنهم تبوؤوا مناصب عليا في ميدان الإعلام والثقافة بمختلف أسلاكه مبررين تغيير مواقفهم  بما قاله إنجلز: “إذا لم يكن المناضل الشيوعي قادراً على أن يغير أخلاقه وسلوكه وفقاً للظروف مهما تطلب منه ذلك من كذب، وتضليل، وخداع – فإنه لن يكون مناضلاً ثورياً حقيقيا”

ولاشك أن تصرف عبد الناصر بطل رواية الطلياني تُجسد هذا المنحى بوعي من المبخوت أو من دون وعيه ,إذ نجده كشخصية يسارية  تسلك الطريق ذاته في تغيير موقفها بهدف التقارب مع الفكر البورقيبي أو السلطة القائمة كإعلامي ينشر معهم في جريدة واحدة لأن الأنظمة السائدة آنذاك كانت هي الأخرى تحكم باسم الثورة ذاتها ووقف التنظير نفسه .ويتجلى التوافق في الرؤى والأهداف في الرواية بين اليساريين والحكم البورقيبي في تلك العلاقة الحميمية والحب والاحترام المتبادلين وتقارب الرؤى إلى حد التوافق بين “الطلياني” اليساري و”عبد الحميد” مدير الجريدة..  من باب تغيير السلوك تماشيا مع الظروف تماما كما أوصى “انجلز” ولهذا فالشيوعيون لا يحجمون عن أي عمل مهما كانت بشاعته في سبيل غايتهم، وهي أن يصبح العالم شيوعياً تحت سيطرتهم. يقول لينين في رسالة بعث بها إلى الأديب الروسي مكسيم جوركي: إن هلاك ثلاثة أرباع العالم ليس بشيء، إنما الشيء المهم هو أن يصبح الربع الباقي شيوعياً.

وفي اللاز ورغم أن الاشتراكية كمنهج اقتصادي شيوعي هو الذي سارت عليه بالجزائر حقبة من الزمن 1965/1988 وفق تنظير اعتقد انه  يتماشى ومعتقدات الشعب الجزائري المسلم ولكن أصحاب الفكر الشيوعي كانوا يضمرون رفضهم  معتبرين أن تطبيق الشيوعية في الجانب الاقتصادي هو تبعيض لا يكفي ما لم يمس الجانب الأخلاقي  .. وهو ما انعكس قي رواية اللاز كانهزامية في شكل تمرد إعلانا لرفض وطار من منطلق إيديولوجيته الشيوعية وحتى يعبر من خلال رواية اللاز عن رفضه لترويض الشيوعية وفق مفاهيم إسلامية التي روج لها الكثير من المثقفين بمختلف مشاربهم مهم الدكتور يوسف عز الدين في كتابة الاشتراكية والقومية وأثارها في الأدب الحديث وهي عبارة عن محاضرات ألقاها أمام الطلاب دافع فيها عن المذهب الاشتراكي حيث نجده يقول : “ويجب أن يتخذ الكاتب الاشتراكي العربي الاشتراكية عقيدة عمل في سبيل تطوير أمته وليست سبيلا فنيا أي أن الأدب الاشتراكي يجب أن يكون فلسفة يؤمن بها الأديب وأسلوبا لمعالجة المشكلات العربية وتوسيع الأفاق أمام الفكر العربي بعيدا عن كل طريقة شخصية” وحتى بعض علماء الإسلام ومنهم الشيخ محمد الغزالي الذي روج للاشتراكي من منظور إسلامي  في كتابه الإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين حيث يقول :”لقد نشرت بحوثا مستفيضة عن حقيقة النظام المالي في الإسلام أو ما سميناه على سبيل التجوز (الاشتراكية الإسلامية )”ورغم ذلك فإن الطاهر وطار كتعبير واع عن رفضه وفي انهزاميته الواضحة دأب إلى التضحية ببطل روايته الشيوعي زيدان كجسد تعبيرا منه عن واقع الحال وحتى يكسب تعاطف القارئ ويضمن استمرار التنظير الشيوعي.فانكفاء وطار هنا كان لظروف واقعية عن لغة الانتصار وصنع من  زيدان بطلا مات ثابتا على عقيدته الشيوعية ولكن أليس الذي ضحى هو بطل من ورق وإن الحقيقة هي بقاء الراوي (الطاهر وطار) وانضوائه تحت لواء جبهة التحرير الوطني  من باب تغيير السلوك تماشيا مع الظروف تماما كما أوصى “انجلز”.

* * *

انتهاج السياسة الثقافية كحل لكساد المشروع السياسي الشيوعي

أو التحوُّل إلى “الحرب الثقافية”

إنّ الحرص الكبير الذي أولاه وطار و المبخوت في روايتيهما لتفسير أفكار وعقائد ورؤى الشيوعية ومحاولتيهما إسقاط هذا التنظير على الواقع إلى درجة الحشو ما هو إلا امتثالا لتوجيهات لينين للأدباء في مقال له بعنوان:”تنظيم الحزب وأدبه”حيث يقول : ” لنتخلص من رجالات الأدب غير الحزبيين ، لنتخلص من هواة الأدب المثاليين . على قضية الأدب  أن تصبح جزءا من القضية العامة للبروليتاريا ، وجهازا صغيرا من الآلة الاشتراكية الديمقراطية الموحدة والكبيرة التي تحركها الطليعة الواعية للطبقة العاملة كلها .على النشاط الأدبي أن يصبح عنصرا مؤلفا لعمل حزبي اشتراكي ديمقراطي منظم ” .ومن  الأمثلة الصارخة التي تدل على مبدأ  ” الإلزام القهري ” الذي تفرضه الشيوعية على المفكرين والأدباء  والمبدعين  هو ذلك الانتقاد الشديد الذي تعرضت له رواية( دكتور زيفاجو ) للكاتب الروسي ” بوريس  باسترناك ” التي كانت حسب رأي كاتبها انعكاسا أمينا لضميره ومشاعره ، وتعبيرا صادقا عن رؤيته للواقع والإنسان والحياة استوحى مادتها من الحقائق التي لمسها بنفسه فأثارت ثائرة المفكرين والكتاب الشيوعيين الرسميين ، فراحوا يصفون مؤلفها بأنه ” خائن ” و ” رجعي” ، و ” مرتد ” وهرطيق و عدو  لبلاده  . وطرد بسب ذلك من كل تجمعات الأدباء بالاتحاد السوفيتي و كتشجيع له من الغرب نال جائزة نوبل “

وبعد هذا التراجع للكثير من الأدباء والمفكرين وتنصلهم من الشيوعية الذي يُعد بداية للانهيار وفشلا ذريعا يرجعه فقهاء السياسة  إلى” استمرار عملية التنظير الثوري طويلا من دون ثورات أو تغيير ملموس الأمر الذي جعلها تفقد مكانتها لدى الرأي العام وفي الشارع “العربي” حتى بات لفظ ثورة مثيرا للسخرية بسبب فشل الشيوعية في أوربا ولأن التنظير الثوري استعمل هو الآخر في الانقلابات العسكرية وبعض حركات التحرر التي تحول أغلبها إلى ديكتاتوريات فلم تفقد كلمة ثورة بريقها فحسب بل فقدت المضمون أيضا وتحولت إلى مفردة ميتة في خزانة اللغة الحزينة” وهو ما جعل اليساريين في الغرب وتحت ضغط الاندثار يعيدون النظر في  الكثير من مناهجهم بدءا من الشيوعي الايطالي “انطونيو غرامشي “الذي حاول إخراج المثقف من دائرة البروباغندا السياسية ذات التوجه الاقتصادي إلى الوجهة الثقافية إذ يرى الغربيون المحافظين خاصة المناهضون للشيوعية أنه ” بعد أن فَشِلَت الماركسية الاقتصادية، رأَى “غرامشي” أنَّ الطَّريق الوحيد لضَرْب المجتمع الغربي هو التحوُّل إلى “الحرب الثقافية”، وذلك بالتَّسلُّل إلى مؤسَّساته القائمة، فصاغ مخطَّطًا يقود إلى تدمير الثقافة والعقيدة الغربية، وتقويض البناء الاجتماعي القائم من داخله وانتهاء بالأمريكي  “ميكائيل والزر” الذي انتقد الفكر الشيوعي ثم أعاد صياغته حيث أعطاه صبغة أكثر تحررية حتى من الفكر الرأسمالي نفسه بمعنى أنه ألغى ثقافيا الالتزام بالفكر الجماعي وصنع من التحرر شعارا فوقيا.

الطلياني/اللاز: من التناص كظاهرة ايديولوجية إلى كل أنماط التناص الأخرى

إن التوجه الجديد المعتمد على الهيمنة الثقافية (منهج غرامشي) داخل المجتمعات تبناه أيضا المثقفون الشيوعيون العرب وهو ما ظهر بشكل جلي وواضح في كل إصداراتهم الأدبية فتشابهت كتاباتهم حد التماثل و التناظر لتشابه الخلفية الأيديولوجية فالرواية التي بين أيدينا “الطلياني “تكاد تكون نسخة طبق الأصل لرواية “اللاز”للروائي  الطاهر وطار الصادرة في فترة السبعينيات من القرن الماضي( 1974)أي عند نشأة الرواية الجزائرية اصطدمت بالتقاطب بيْن المعسكريْن الرأسمالي والاشتراكي. ولما كانت البلاد قد خرجت من حرب وانحازت إلى القطب الاشتراكي كان طبيعيا أن يحتل الخطاب الجديد مركز الصدارة”.  التي طبع عليها النضال الثوري اليساري خاصة ليبرز صراعا طبقيا في أغلبه وهمي . ولو أجرينا مقارنة بسيطة بين روايتي اللاز والطلياني لوجدنا أن هناك تناص حقيقي في تركيبة الشخوص وسيران الأحداث ناهيك على المفردات والألفاظ والمفاهيم والنظريات اليسارية الاقتصادية منها والسياسية والاجتماعية المتوغلة في فلسفات معقدة ترى القوانين والقيم الأخلاقية مجرد أوهام وهو تجسيد لمفاهيم الالتزام من خلال الطرح الماركسي، الذي يؤكد على أنها موجودة “بالقوة” في كل أدب ينشئه الأديب

الملاحظ بقوة هو أن هذا التوجه الخطابي “أيديولوجيا ذات توجه سياسي ” الذي لمسناه في رواية الطلياني لشكري المبخوت الذي يشبه إلى حد التناص ما في رواية اللاز هو مفهوم يقينا فرضه مبدأ التحزب لديهم كيساريين عرب الذي لا يقبل أن يكون أي إنتاج أدبي يساري إنجازا فرديا مستقلا عن القضية البروليتارية المشتركة” وشعارهم في ذلك “ليسقط الكُتاب الغير متحزبين ”  من هذا المنطلق فإن رواية الطلياني أو رواية اللاز للطاهر وطار ليستا إنجازا فرديا بالمعنى المتعارف عليه بل هو إنجاز جماعي وفقا للمفهوم الاشتراكي لأنه يخدم الفكر الجماعي وما يؤكد ذلك هو تشابه كتابات اليساريين من حيث المتن الحكائي(الحكاية الخطاب) وبنية الرواية (الأحداث الفضاءين الزماني والمكاني الشخصيات واللغة)  البنية السردية (مراحل الفعل السردي ) والبنية التبليغية (المرجعيات النصية ) وسنكتفي بالتعرض لهذه الجوانب باستنباطها دون التعرض لها في قراءتنا لأيديولوجية النصين من حيث تفسيرهم المادي للتاريخ حيث اعتمدا الاثنان  في تفسيرهما للأحداث على المادة كأساس للصراع بين أفراد المجتمع منطلقان من نظريات اقتصادية  شيوعية معادية للبرجوازية وهذا ما جسده وطار حين  صنع من الثورة التحريرية (كحدث ) تاريخي هو مجرد ثورة جياع ضد نظام إقطاعي وهو نفس النهج الذي انتهجه المبخوت في تفسيره الأحداث السياسية التاريخية المتمثل في نضال الحركات الإسلامية التي  أرجع السبب في ذلك إلى إساءة التعامل مع الملف الاقتصادي من طرف السلطة في حين أن نضالها كان عقائديا وهو المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية . ليجسدا بذلك شعارات الشيوعية القائم على الصراع الطبقي بمفهومه الاقتصادي الذي يهدف إلى سحق البورجوازية هذه الكلمة التي تكررت في الروايتين بشكل لافت .

* * *

العنونة كترويج للشخصية النمطية  في اللاز والطلياني

يمكن استنطاق عديد الرؤى في عنونة الروايتين فالأول أراد لعنوانه أن يحمل اسم الطلياني فانسلخ بذلك عن قوميته العربية بل ونجده موضع شك في منبته فهل هو “لقيط”  ثمرة خيانة زوجية غير معلنة “المسكوت عنه ” في الرواية وإلا فما تفسير تلك الأسئلة الكثيرة التي طرحت عن ملامحه الايطالية وعن علاقته والدته بالمجتمع الأوربي وحتى تلك العلاقة المتوترة التي تربطه بأمه نجدها تدعم هذا التوجه خاصة وأنها تلازمت مع عبارة” ولد الحرام” التي ترددت كثيرا  وكذلك اللاز فهو كنية كالطلياني تماما فإن كان اسم الطلياني يوحي بالمافيوية لما للمافيا من التصاق بالايطاليين وهو رغم ثقافته اليسارية الموغلة في الفلسفة فإنه شب حاقدا على المجتمع متمردا عليه ساخرا من تراثه فإن اللاز الذي هو نقل حرفي للفظ الفرنسي ( l’as) و دلالته ” أنه في القديم كان يطلق على الجزء الأدنى من العملة و يطلق على العدد المفرد في أوراق لعب القمار ”  و تعني في دلالتها العامية الجزائرية الشخص ذا النزعة الشيطانية المتفردة و الغريبة . فهو اسم لا يمت بصله لقاموس أسماء المجتمع الجزائري وهو أيضا لقيط ابن زنا شب حاقدا على كل ما حوله فكان شريرا  اعتمد السطو والاعتداء والسرقة طريقة للانتقام وكسب رزقه ولكن يفترقان في كون الطلياني مثقفا يساريا حد النخاع بمرجعية ماركسية لينينية فلسفة وإيديولوجيا تماما كشخصية زيدان الشيوعي الأحمر كما روج لها وطار في اللاز ولكن يلتقي ب”اللاز” من حيث كان يحلم بأن يكون أحمر على نسق أبيه  إذن فشخصية الطلياني تمثل شخصيتي اللاز وزيدان على حد سواء فهو يشبه اللاز في شذوذه وارتكابه المعاصي وتردده على المخمرات وبنات الهوى وفي العقدة النفسية التي تحرك الشخصيتين “اللاز/الطلياني” فاللاز” يتصرف بعقلية اللقيط .يكره المجتمع ويريد الانتقام هو الآخر مثل الطلياني الذي يتحرك من كونه ضحية اعتداء جنسي  La pédophilie ورغم هذه السلبية في التركيبة النفسية للبطلين فقد مارس المبخوت كما وطار ما يسمى بإيديولوجية التضليل لتقديمهما كشخصيتين نمطيتين فسعى وطار سعيا ليصنع من اللاز الصورة النمطية للجزائري حيث يقول وهو يصف اللاز إنه (بذور الحياة كالبحر لا إنه كالشعب برمته الشعب ، المطلق بكل المفاهيم)  تماما كما شكري  المبخوت الذي صرح في برنامج  Récap  قائلا: ” أن روايته إنما أحبها التونسيون والشباب التونسي بالأخص لأنه وجد في شخصية الطلياني نفسه وبمنظور أكاديمي فإن الراوي في اللاز والطلياني شبه المروي له بالمروي وهو بذلك يريد إضفاء الشخصية العربية على البطل الشاذ

* * *

المضمون  الشيوعي ومبعثه في روايتي الطلياني واللاز

يجمع فقهاء السياسة في العالم أجمع على أن اليسار العربي لم يستطع استقطاب الأجيال المتعاقبة رغم أن بدايات ظهوره تعد أقدم من غيرها من التيارات الوطنية والإسلامية التي ظهرت فيما بعد بل كان في أغلب الفترات لوحده بالميدان ورغم ذلك كان التباعد يزداد يوما بعد يوم بين الطبقة المثقفة داخله والأطياف الأخرى وأمام تزايد حالة الإرباك الفكري الداخلي ونتيجة التيه  الأيديولوجي ، انبرى الإعلاميون والسياسيون تحت لواء الأنظمة واكتفوا كما ذكرنا بمناصب داخل المنظومة الإعلامية ،الثقافية والسياسية وأما الأدباء من روائيين وشعراء ومسرحيين فإنهم وجدوا في السرد ضالتهم لأن الكثير من الأدباء إنما يبدعون بغرض التنفيس عن الهموم والرغبات والعواطف،وهم لا يكتفون بهذا، بل يعمدون إلى توصيل أعمالهم إلى الغير ليعيش معهم التجربة “فقد قيل”،مثلاً إن “غوته” حرّر نفسه من آلام العالم بتأليف “آلام فرتر”، وأنّ الشاعر ديموسيه كان يلجأ إلى الشعر لإنقاذ نفسه من الانتحار” وفي هذا يقول ابن قتيبة «وللشعر دواعٍ تحث البطيء وتبعث المتكلف، منها الطمع، ومنها الشوق، ومنها الشراب، ومنها الطرب، ومنها الغضب» ومن هنا نجد أن الدافع وراء عمليات القفز على الواقع التي يقوم أدباء اليسار كحركة لنفي الواقع  ما هي إلا ردود أفعال نتيجة فشل المشروع الشيوعي في القيادة كانتقام من واقع رفض تبني أفكارهم فإذا كان الحزب الشيوعي الجزائري المبجل في رواية “اللاز” فقد ثقة الشعب الجزائري منذ النشأة رغم الشعارات البراقة التي كان يتبجح بها لأن سياسته العامة المستوحاة في أصلها من  المد الشيوعي العالمي لا تتوافق مع مصلحة الشعب الجزائري بما يحمله من تراث عربي إسلامي وهو ما بدا عند المحك الحقيقي أي اندلاع ثورة التحرير حيث ظهرت حقيقة امتداده للحزب الشيوعي الفرنسي ، حين أصدر بيانا يوم 02 نوفمبر 1954 أعلن معارضته للثورة التحريرية وصفها بالعمل المنفرد الذي سيؤدي بالشعب إلى الهلاك رافضا الالتحاق بصفوفها محرضا الشعب الجزائري على عصيان أوامرها ومقاطعتها وداعيا للتعايش بين المجتمعين الفرنسي الجزائري في إطار حل ديمقراطي”سياسة الإدماج”  ، () أما موقفهم قبل الثورة والتي بدا فيها شيء من الوطنية فقد كان قائما على خطة انتخابية فقط  .فقد أيدوا الإصلاحات لأنها تمنح مليونا ونصف من الجزائريين حق التصويب وقد انكشف زيفهم بعد أحداث 1945 حيث واصلوا تأييد سياسة الإدماج ولكن الانتخابات فيما بعد خيبت آمالهم لأن الشعب لم يمنح صوته لدعاة الإدماج ”  , ونفس الشيء بالنسبة للمبخوت إذ وجدناه يمجد اليسار في تونس في حين أن هذا التيار  ظل يناضل ضمن طبقة العمال والطلبة ليؤسس أول حزب ماركسي في تونس تحت اسم « حزب العمّال الشيوعي التونسي« ، سنة 1986.  ورغم أن مواقفه اتسمت بالحدة إلا أن  شعبيته في الشارع التونسي كانت تكاد تكون منعدمة وقد أظهرت نتائج الانتخابات ما بعد الثورة  أيضا محدوديته داخل المجتمع التونسي .

إنّ التوجه الجديد المعتمد على الهيمنة الثقافية (منهج غرامشي) داخل المجتمعات تبناه أيضا المثقفون الشيوعيون العرب وهو ما ظهر بشكل جلي وواضح في كل إصداراتهم الأدبية فتشابهت كتاباتهم حد التقابل و التناظر لتشابه الخلفية الأيديولوجية  فالرواية التي بين أيدينا “الطلياني “تكاد تكون نسخة طبق الأصل لرواية “اللاز”للروائي  الطاهر وطار الصادرة في فترة السبعينيات من القرن الماضي (1974) التي طبع عليها النضال الثوري اليساري خاصة ليبرز صراعا طبقيا في اغلبه وهمي . ولو أجرينا مقارنة بسيطة بين روايتي اللاز والطلياني لوجدنا أن هناك تشابه حد التناص في تركيبة الشخوص وسيران الأحداث ناهيك على المفردات والألفاظ والمفاهيم والنظريات اليسارية الاقتصادية منها والسياسية والاجتماعية المتوغلة في فلسفات معقدة وكلها تجسد مفاهيم الالتزام من خلال الطرح الماركسي، الذي يؤكد على أنها موجودة “بالقوة” في كل أدب ينشئه الأديب.

قبل شكري المبخوت صبغ الروائي الجزائري الطاهر وطار ذي النزعة الشيوعية على”زيدان” أحد أبطال رواية  “اللاز” بصفة البطولة والمثالية المطلقة فصنع منه المحور الأساسي الذي ترتكز عليه الرواية فهو المجاهد والقائد الذي لم ينضم للثورة المسلحة بدافع ديني أو وطني مثل كل مجاهدي جيش التحرير الذي انطلقوا وشعارهم الله اكبر ولكن “زيدان” هذه الشخصية اليسارية التي ولدت في رواية وطار كاملة منذ البداية”  فقد انضم للثورة بدافع إيديولوجي أممي وبقناعات حزبية بعيدة كل البعد عن ثوابت أمته  فكان بطلا فذا يخطط للمعارك ويخوض حربا نفسية لزرع الرعب في نفوس جنود فرنسا ” يقين أن الأحمر اللعين هو الذي يخطط لهم تدرب في صفوفنا وتثقف في مدارسنا وسبقتنا إليه موسكو ” .وأيضا مربيا وزعيما روحيا يلهم محيطه بالوعي الثوري والفكر التقدمي ويعمل على تنمية عقول جنوده وتعلمهم بل وقد أوجده “وطار ” منظر أوحد” الرفيق الزعيم ” لثورة التحرير الجزائرية من بعدما سرد تفاصيل حياته الشيوعية إذ تربى في  أحضان مدرسة إطارات الحزب الشيوعي الفرنسي ، و مدرسة القيادات الحزبية بروسيا وبعد أن نال ثقة قيادة الأحزاب الشيوعية في فرنسا والاتحاد السوفيتي  التحق بالثورة المسلحة ليؤثر في كل من حوله فحتى اللاز ابنه اللاشرعي الشخصية “عنوان الرواية” ما كان ليتغير من النقيض إلى النقيض لولا ماركسية أبيه زيدان وأخيرا يصنع وطار من  بطله الورقي شهيدا وضحية لجهل قيادات جبهة التحرير الوطني مجسدا من قصة موته ملحمة بطولية مثالية إذا مات وهو يهتف بسقوط الامبريالية الاستعمارية والرجعية “.وينشد نشيد الأممية وفي المقابل صنع من مجاهدي جيش التحرير جُهالا ينقصهم التفكير الواضح والوعي السياسي ينتصر عليهم ويربكهم في كل مناقشاته معهم بل ونجد الروائي يتهكم بسخرية على لسان زيدان من كل طبقات المجتمع حتى البروليتاريا حيث يسرد ما يلي ” بذلت قصارى جهدي لأنفخ فيه روح الطبقية ، وقد تطور بنسبة أربعين بالمائة “.” عملت على تطويره ، حتى أصبح يخجل من نفسه كلما تذكر ، ترهاته ” وبنظرة فوقية متعالية يصف المجتمع الجزائري بالقول :”مجتمع أشد تخلفا من مجتمعات القرون الوسطى ، مجتمعا تطمسه البداوة ،رعوي ضارب في التأخر والانغلاق ”  معتبرا المجتمع الجزائري كله بروليتاريا حسب مفهومهم متجاهلا أن  هذا المجتمع المنغلق المتخلف هو الذي فجر الثورة وهو الذي احتضنها وخاضها ببسالة ضاربا أروع البطولات .

وكتناص على خطى وطار صنع  المبخوت من شخصيتي “عبد الناصر”المناضل الصلب المبدئي الذي يستقطب الطلاب الجدد و “زينة”المتحرية بطلين يساريين يكملان بعضهما البعض  فزينة لعبت دور الأمريكي “ميكائيل والزر” Mechael walzer الشيوعي المتحرر أو المتحرر الشيوعي (communautariste libéral) أو (Libéral communautariste)كما يصف نفسه وكما تصف زينة نفسها حيث تقول في إحدى حواراتها مع عبد الناصر “أنا حرة في نقد اليسار واليمين ” فكانت مثله تنتقد  الفكر الشيوعي وتعيد صياغته في حواراتها بتحررية الفكر الرأسمالي ورغم الانتقاد الذي وجهته لخط اليسار التونسي فإنها كانت تلتقي مع عبد الناصر “وافقته في جانب من تحليله ” فهي كشخصية ورقية داخل المتن الحكائي نجدها تجسد قولا وفعلا تلك الإنجازات التي يرى”والزر” أن اليسار حققها منذ الستِّينيات من القرن الماضي والتي عددها  في دورِيَّة “المعارضة الماركسية التي لخصها في التأثير الظاهر للحركة النسوِيَّة على المجتمع والظهور العلَنِيُّ لسياسات حقوق الشَّواذِّ (المثلية) ، وشرعية الإجهاض، تغير تركيبة الحياة الأُسَرية،و الأعراف الجنْسيَّة وتراجع دور القيم الدينية في حياة الناس  وتقَدُّم العلمانية. ولو راجعنا تاريخ النضال الشيوعي العربي لوجدناه يصبو إلى  الأهداف ذاتها حيث يرى اليسار التونسي أن “العلاقات الجنسية الأخلاقية الوحيدة هي العلاقات القائمة على الحبّ ” بغض النظر عما إذا كان بين مثيلين أو غير ذلك .

* * *

 

اترك رد