أيمن فايز عطية
(كاتب ورسام تشكيلي مصري)
منذ سنة ٦٠ ميلادية حتى دخول العرب مصر سنة ٦٤١م ، علي يد عمرو بن العاص و كان البطريرك وقتئذٍ هو البابا بنيامين الثامن و الثلاثون من عدد البطاركة ( سنة ٦١٧ م. – سنة ٦٥٦ م . ) فكان جميع من احصي يومئذٍ بمصر اكثر من ستة ملايين نفس تقريباً ، بينما جيش العرب كان لا يتجاوز ثمانية آلاف عسكري .
دخلت مصر ثقافات مختلفة من عمارة ونحت وتصوير وزخارف وصناعت مختلفة وموسيقى حتى دخول الرهبنة وتطور الأديرة وبناء الكنائس وممارسة الطقوس، وشرفت مصر بزيارة السيد المسيح “وَمِنْ مِصْرَ دَعَوْتُ ابْنِي” (مت ٢:١٥).وأيضًا كاروز الديار المصرية مرقس الإنجيلي، كل هذا ميز مصر حتى تحققت النبؤة القائلة:”في ذلك اليوم يكون مذبح للرب في وسط أرض مصر وعمود للرب عند تخمها. فيكون علامة وشهادة لرب الجنود في أرض مصر لأنهم يصرخون إلى الرب بسبب المضايقين فيرسل لهم مخلصًا ومحاميًا وينقذهم”. (إشعياء ١٩: ١٩).و بذلك سقطت الأصنام والمعتقدات الخاطئة وانتشرت المسيحية حتى حل القرن الرابع الميلادي وأصبحت الديانة المسيحية هي الديانة الرسمية للبلاد.وهذا ليس صدفةً ولا بغتة بل كان بدماء الشهداء التي سقت بذار الكنيسة الأولى حتى يومنا هذا.ومن ثَم جاءت حقبة المجامع المسكونية والاحتجاجات الكنسية أمام البدع ومن هذا لُقب بابا الأسكندرية بلقب “قاضي قضاة العالم والحواري الثالث عشر”.
ومن بعدها ظهرت الرهبنة على يد الأنبا أنطونيوس الكبير وتم انتشارها في العالم كله.بل ساهمت المسيحية في تطور العالم من طقوس ومؤلفات للآباء وسِِِجل الشهداء ومن بعدها جاءت رسائل أثناسيوس الرسول المُلقب بحامي الإيمان ( البطريرك العشرون من خلفاء مار مرقس الرسول ) وكيرلس عمود الدين وبطرس ختم الشهداء ورسائل القديس أنطونيوس باللغة القبطية واللهجة الصعيدية، ومن أهم الؤلفات والمخطوطات لهذة الحقبة توجد بالمتحف البريطاني وأيضًا كتابات القديس الأنبا شنودة رئيس المتوحدين وقصائد للشاعر القبطي كرسيتو رودس وسفر التكوين المدون في القرن السادس الميلادي وكثير من المخطوطات تزين بها المتحف.ناهيك عن الفن القبطي وتفرده عن باقي الفنون التي سبقته وتأثيره في الفنون التي جادت بعده كالفن الإسلامي.واستقلال اللغة القبطية وتخليها عن الكلمات اليونانية حتى أصبحت لغة الشعب والكنيسة والدولة بل أصبحت العقود والرسائل والأوامر والمنشورات الرسمية تُكتب باللغة القبطية واليونانية بعد أن كانت قاصرة على اليونانية فقط، ويرجع هذا الفضل للقديس الأنبا شنودة رئيس المتوحدين.بل تبسطت اللغة القبطية بوضع أبجدية لها من ٣٢ حرفًا، منها سبعة أحرف من الديموطيقية، و٢٥ حرفًا من اليونانية، وهذه الحروف مقتبسة أصلاً من المصرية القديمة، ولهذا استعان بها المفكر باثيمنوس في إدخالها للكتابة القبطية.
إذن من هم القبط؟ دائماً كانت مصر مقسمة إلى إقطاعيات ولكل إقطاعية معبود خاص بها، فكان الإله رع أون أي “الشمس” مصدرًا للحياة يُعبد في مدينة هليوبوليس (المطرية) والإله بتاه أو “بتاح” رب الصناعات وخالقها يُعبد في مدينة “منف”.و الإله “آمون” القوة الخفية يُعبد في مدينة طيبة (الأقصر) حاليًا.أهل مصر هم القبط سواءً كانوا نصارى أو مسلمين أو يهود، فكل قبطي مصري وكل مصري قبطي، وإن لم تكن هذه اللفظة قد خُصصت بنصارى مصر المتأصلين الذين حافظوا على جنسيتهم ومعتقداتهم، ولكنها في الحقيقة هي لكل مصري سواءً أكان متمسكًا بنصرانيته أو ترك دينه أو تمسك بملة أخرى، لأن كلمة قبطي أو مصري لم تكن في الحقيقة إلا كلمة لمسمى واحد، والقبط هم نسل الفراعنة أصحاب أقدم حضارة بشرية ولهم يرجع رقي الإنسان.أنني اليوم مندهش لهذا التاريخ والعراقة ويهمني كيف نتقدم بل كيف نحافظ على ما وصلنا إليه وما ترك لنا …
كيف ونحن نقتل في بعض لكون الآخر مختلفًا عني في ديني، فإننا في عالم تسوده الأحقاد والمحن ويتربع فيه أمية المتعلم وجهل البسطاء وبراثن المسوؤلين ونتسابق إلى ما هو سراب، ونُعلم في أجيالنا ثقافة الموت والتفخيخ ولا نعرف كيف نحب الحياة، لأننا لا قيمة لنا طامعين في الشهادة في قتل الابرياء..
فمن هو الشهيد؟ القاتل أم المقتول! شهيد لاسم من؟ للحق أم للتعليم الذي ليس له مرجعية إلا مرجعية الشخص نفسه؟ خاص لفكره المتواضع، لأنه ليس له قيمة في حياته، فينهي ويدمر من حوله، ويكون الحكم قبل الجلسة، المجرم معتل عقليًا حينما يقتل من اختلف عنا، أين هذا الاعتلال في شخص عنده القدرة على قتل أشخاص من غير دينه في وقت واحد؟، العلة تكمن فينا حينما نُقمع لتصديق هذه الأكذوبة، فأنت دمية في خيوط من يسيطر عليك. فنحن شهداء لأننا لا نعادي أحدًا، بل نغفر لمن أساء إلينا ولسنا مطمعًا لتخلف منظم، لكننا نحب الحياة، لأنها منحة من خالقها، ولا نطمع في شي أرضي بل نثمر وننتج في كل ما يوكل لنا لأننا نرى الله في مخلوقاته، ويكون الانتماء لخير موقعنا أينما كنا..اذهبوا أثمروا الأرض كلها بالحب.إنني في حيرة بين الانتماء والوطنية في مظاهر تُشكل مستقبل الصورة في مخيلة الأجيال الجديدة ..
لقد كثرت في الآونة الآخيرة ظاهرة حاملي الأعلام الوطنية في مبارة لكرة القدم بل يتعدى هذا المكسب لاسم مصر والخسارة بسبب يتيم الهوية، وننسى العروبة والقومية ونتراشق الألفاظ والاغتيالات لكوننا أخفقنا في بطولة رياضية، بل ما يزيد الطينة بِلة، أنه تكثر الأغاني الوطنية، وكأننا نُحشد الجموع لحرب قادمة تكون نتائجها العداء لمن تفوق علينا ولا نسأل عن أسباب الإخفاق، هل هو التدريب أم التخطيط أم النجاح الشخصي؟ أنا ومن بعدي الطوفان.إننا في حيرة من شعب يتكلم بالدين وليس بالأفعال، ونُكفر من حولنا ونحكم عليه باسم الله.. هل تبدلت الأدوار .. أين الحب؟ لقد أصبح عملة قديمة لها قيمة في المتاحف.
****
(*) اللوحات للرسام التشكيلي أيمن فايز عطية