ألثّقافة! الثّقافة!
إيلي مارون خليل
(أديب وروائي وشاعر-لبنان)
قال أبي:
– علّمَتْكَ المدرسةُ، وعلّمتْك الجامعة. وقد مررْتَ بغير مدرسةٍ، وبغير جامعة.
– صحيح. ولكن لكلّ مدرسةٍ جوُّها واتّجاهاتُها والاهتمامات! وكذلك الجامعات، مع فارق الاختصاص بين جامعة وجامعة.
– عظيم! والسّؤالُ الآن: هل ثقّفتْك المدارس، أو الجامعات؟
أحسسْتُ بصدمة السّؤال! قليلًا وأجبتُ:
– عليّ التّفرقة بين المعرفة والثّقافة.
– أحسنْتَ! فما تقول؟
– لم تقدّم المدارس ثقافة وفيرة. طغى التّلقين على التّحليل، إلّا في القليل النّادر حين نُرْزَقُ أستاذًا مميَّزًا، وما كانوا كثيرين! كلّهم، إجمالًا، يعملون على إنهاء البرامج بطريقة ننجح معها بالامتحانات الرّسميّة. لذلك كنّا نحفظ غيبًا. نسيتُ، أنا، كلَّ شيءٍ الآن. تقريبًا كلّ شيء!
– هذه الـ”تقريبًا”، تعني أنّك لا تزال تختزن شيئًا!
– صحيح! إنّما لأنّه قد نال إعجابي، أو لأنّني أكون قد فهمتُه بشكلٍ مُعَمَّق.
– وهل تستطيع الاستفادة منه الآن؟
– أيّما استفادة!
– إذًا، فهذه هي الثّقافة!
– أن أنسى!؟
– أن يبقى في ذهنك القليلُ بعد أن تنسى كلَّ شيء!
صَمَتَ أبي، الخوري مارون، وما أفْصَحَ صمتَه وأبْلَغَه! درس تَقَلُّبات عينيّ وحَيرتَهما، أضاف:
– تَيَقَنْ، يا بنيّ، من أنّ الثّقافة مشروعٌ لا نهائيّ! مصادرُه كثيرة. منها الكتابُ والّلوحة والمنحوتة والّلحن والحياة والطّبيعة… كلُّ ما هو موجودٌ يُثَقّف. والثّقافةُ نَمَطُ حياة، لا نَمَط تفكيرٍ فحسْب. إذ ما يُمكِنُ أن تُفيدَك المعرفةُ إلّم تعمل بها!؟ إفترضْ أنّك تعرف تعاليم ديانتِك كلَّها، تمام المعرفة، لكنّك لا تحياها، ولا تحيا بموجبِها، فما تكون قيمةُ هذه المعرفة!؟؟
– قيمة نظريّة!
– وبمَ تُفيد؟
– المعرفة نفسها!
– أتجد لهذا النّوع من “المعرفة” قيمة، أو أهمّيّة، أو دورًا…!؟
– مثلُ هذه المعرفة تجعلُني “مجتهدًا” أنجح في الامتحان المدرسيّ والرّسميّ!
– هذا النَّوعُ من المعرفة يُبقيك أُمّيًّا!
– كيف!؟
– ألثّقافةُ ألّا تفصلَ بين المعرفة والحياة!
– مثلًا؟
– ألستُ، أنا، خوري رعيّةٍ، ومن مَهامّي الوعظُ والإرشادُ والتّوجيهُ…؟
– بلى! لكنّك لم تعظ مرّة!
– إنّي أعِظُ كلَّ يومٍ! وأفضلُ عِظاتي تلك الّتي أُلقيها وأنا صامتٌ! كثيرُ الصّمتِ!
– ماذا تقصد!؟
– أقصدُ أنّ أفضلَ عظةٍ يُمكن أن يُلقيها الخوري على أبناء رعيّتِه، هي “حياتُه” بينهم! يتّخذونها لهم نِبْراسا ومِثالًا. أن تُعَلّمَ بحياتك، لا بأقوالك، تلك هي المسألة!
– هذا… أمرٌ صعب!
– قد يكونُ صعبًا، لكن ليس مستحيلًا!
– تدعو إلى المِثاليّة!
– لِمَ لا!؟ حين نحاول، برصانة وجِدّيّةٍ، بلوغ المِثال، نقترب منه إلى أكثر ما يُستطاع.
– أحلام بأحلام!
– أحلمْ بالمِثال تحقّق الممكن!
– أنت كاهن حقيقيّ، يا أبي!
– أنا إنسان حقيقيّ!
أحنَيتُ رأسي، مُغمِضًا عينيّ، فاتحًا ذهني، مُشْرِعا قلبي. وكمَن خُطِف سمعتُني أهذي:
كيف يستطيع إنسانٌ لا يزال على الأرض، أن يتخلّى بهذا القدر، ويرتقي إلى هذه المرتبة!
قال أبي:
– أفهِم تلامذتَك، لا تُحَفّظْهم! ألحِفظُ اغتِصابٌ للذّاكرة، قتْلٌ للإبداع! أمّا الفَهْمُ، فتفتيقٌ للقدرة على التّفكير، التّحليل، التّأويل. واحيَ معهم وأمامهم معرفتك بدراية وانفتاح، تُثقّفهم! يا بنيّ: حاورْهم! شجّعْهم على البحث، حُضّهمْ على تجاوز ما يعرفون، أغرسْ فيهم بذار تحدّي الذّات… هكذا يبنون ثقافتَهم ويحيَونها، من دون انتباه! ولا تنسَ: ألثّقافةُ الثّقافةُ تؤسّس للسّعادة، وهي غايةُ الغايات!
(ألأربعاء 8 يونيو 2016)