د. راني جوزف الغُصَيْن
أن تُحِبَّ صوتًا تطربُ له أُذْنُكَ حتَّى الثُّمالَةِ شيءٌ رائع، أن ينسلَّ النَّغمُ من بُرْعُمَةِ فَمٍ إلى قلبِك وروحِك أروعُ وأجمل، أمَّا الأكثرُ روعةً وجمالاً فأن يخترقَ ذلك الصَّوتُ المِساحاتِ والمَسافاتِ الزَّمنيَّةَ لِيُعَبِّرَ عَمَّا ينتابُك من مشاعرَ وِجدانيَّة، وطنيَّة، إنسانيَّة، وكِدتُ أقولُ كونيَّة، تَضُجُّ بالعنفوان والشُّموخ إلى حدودِ التَّمرُّد على الخمول والثَّورة على الظُّلم وصولاً إلى عالَمٍ يزدانُ بالأمن، السَّلام، المَحبَّة والمُساواة. أليسَ هذا رسالةَ الفنِّ الحقيقي ومَحجَّةَ الكبار الَّذين يصنعون مجدَ بلادهم؟!
جوليا الثَّائرةُ والمُعَبِّرةُ عن أحاسيسِ وطنٍ وأمَّة، يَصبوانِ إلى العدالة والحقِّ والحُرِّيَّة، أضحتْ لِسانَ حالِ كلِّ إنسان وتُرجمانَ ضَميرِه وعنوانَ كرامةٍ وشهامةٍ وإباء. إنَّها وشقيقَها زياد بطرس، شمسٌ وقمرٌ يَدورُ في فَلَكِهِما نجومٌ لها بَريقٌ وشَرَرٌ في سماءِ الفنِّ الرَّصين، الرَّاقي والملتزم، وفي شؤونِ الحياةِ وشجونِها، وَهُما تَوأما روحٍ وشعورٍ مُرْهَفٍ في ٱنتقاءِ الكلمةِ، اللحنِ، التَّوزيعِ والأداء…
وقد بَلَغَني أنَّ جوليا تتحضَّرُ لإِطلاقِ أَلْبومٍ جديد، وتقديمِ حفلٍ كبير في بيروتَ، في آبَ المقبل، فَشَعَرْتُ بأنَّ الوقتَ قد حان لأكتبَ عنها وعن صدى فنِّها في نفسي وسِرِّهِ وسِحْرِه، عَلَّني أُبدي ما ٱطَّوَيْتُهُ من المَحَبَّةِ والاحترامِ والتَّقدير لِشَخْصِها وفنِّها. عَرَفْتُها، أوَّلَ مرَّةٍ، من خلالِ الشَّاشةِ التِّلفزيونيَّة في الحَفْلِ الَّذي أَحْيَتْهُ على المُدَرَّجِ الرُّوماني في صور سنة 1991 وكانت في بداياتها، فأحْسَسْتُ بٱنجذابٍ إلى نَموذجٍ غنائيٍّ فَنِّيٍّ أصيل، هو نَسيجُ ذاتٍ لا تُقَلِّدُ ذاتًا أُخرى، وَرُحْتُ أُنَقِّبُ عن أعمالِها واحِدًا، وَاحِدًا، وَحَضَرْتُها في غيرِ مِهرجان وكنتُ دومًا ألتقيها وألتقطُ صُوَرًا وإيَّاها، مُدْرِكًا، عن كَثَبٍ، شخصَها المُمَيَّز وإنسانَها الطَّيِّب والمتواضِع.
قالَ والدي الشَّاعر جوزف الغُصَيْن في مُقدِّمة ديوانِه “أنداء وأصداء”: “لم أَنْظِمْ بيتًا واحِدًا من الشِّعر لم يَكُنْ مَولودًا شرعيًّا ومن لَحْمي ودمي”، وفي يَقيني، أنَّ جوليا، كذلك، لم تَنْبِسْ بِبِنْتِ شَفَةٍ، ولم تُغَرِّدْ بِحرفٍ لم تَشعرْ بِهِما؛ فَقَسَماتُ وَجْهِها وصِدْقُها الخالِص وكلُّ نَبْضٍ فيها، هذه كُلُّها تَبوحُ وتُغَنِّي وتُبْدِعُ وتَتْرُكُ أبلغَ الأثر في مُسْتَمِعيها ومُحِبِّيها لِتَنْقُلَهُم من واقعٍ مُشَوَّهٍ، إلى عالَمِ المِثالِ والحُلم. إنَّ هذا، وَبِلا شَكٍّ، كان سببًا هامًّا في نَجاحِها وٱستمرارِها هذه السَّنواتِ كُلَّها. وقد تفرَّدَتْ جوليا بأمورٍ شَتَّى، نَذكرُ منها:
– خامَةَ صوتٍ نادرةً، مُرِنَّةً وأثيرةً. فَصَوْتُها الميتزو سوبرانو(Mezzo-soprano)، الَّذي يَنمازُ بأداءِ الطَّبقات العُليا والجَهيرة لَدى النِّساء، قديرٌ على أداءِ الأنواع الموسيقيَّة المُتَعدِّدة من غربيَّة وشَرق عربيَّة، بِصَفاءٍ ووضوحٍ بالِغَيْن من غيرِ أن يخدشَ الأذنَ أو يؤذي الذَّائقةَ الفنِّيَّة، مُصَوِّرًا الحالاتِ الإنسانيَّةَ جميعَها، أجملَ تصوير. إلحَظِ الرِّقَّةَ، مَثَلاً، الَّتي يُجَسِّدُها هذا الصَّوت في أغاني الحُبِّ لَدَيْها بِعامَّةٍ و”حبيبي” بِخاصَّة، والظَّرفَ والدُّعابةَ في “مِنْحِبَّكْ” و “يا ما شالله”، والعنفوان في
“وين مسافر” و”لا بْأحلامَك” وتحديدًا في الطَّبقاتِ العُليا، والنَّقمة في “حجار المِنسيِّين” وإليسَّا” والتَّمرُّد في “يا شعبي” و”الحقُّ سِلاحي”، والثَّورة في “نُقاومْ” و”يا ثوَّار الأرض”… ويبقى الصَّوتُ، المُتَرَجِّحُ بين الحركةِ والسُّكون، سَليمًا، مُعافًى، نظيفًا، صافِيًا، واضِحَ العُرَبِ والقَفلات المُحْكَمَة.
– سَلامَةَ اللفظِ عندها وصِحَّةَ مَخارجِ الحروف اللتين تَجعلانِ أداءَها ينسابُ الى أعماقِك بِيُسْرٍ وسَلاسَة.
– إحساسَها المُرهف وأداءَها المُتَمَكِّن والمُضَمَّخ بإنسانيَّةٍ عَميقةِ الغَوْر، هِيَ الَّتي يَمَّمَتْ موضوعاتِ الإنسانِ والوطنِ والحياةِ بِرُمَّتِها، فَغَنَّتِ الحُبَّ، الأمَّ، الطِّفلَ، العائلةَ، الألَمَ، الغُربةَ، الفِراقَ، التَّمرُّدَ، الثَّورةَ، الانتصارَ، الفرحَ، الأرضَ، الوطنَ وهذا الشرقَ مَهْدَ الحضارات.
– طَرْقَها ألوانًا غنائيَّةً مُتَنَوِّعة: فَفي البدايات غَنَّتْ بالفرنسيَّة، من ألحان الأُستاذَيْن إلياس رَحْباني وفؤاد فاضل، ولا أنسى من تلك الحِقبة أُغنيتَيْن أثيرتَيْن هماLe tango و A maman. وكانت “غابِتْ شَمْسِ الحَق” مِفْصَلِيَّةً في حياتها ومِحْوَرِيَّة ونَقْلَةً نَوعيَّة، الأمرُ الَّذي فتحَ لها أبوابَ الشُّهرة على مَصاريعِها.
– المَقاماتِ الغَنِيَّةَ الَّتي غَلَّفَتْ أغنياتِها من ألحانِ أخيها زياد: فَمِنْ مَقامِ العَجَمِ الجميل (Majeur): “ناداني وقَلْبي مالْ”، “مَوْسِمِ الخَريفْ”، “ٱحْكيلي عَ السَّهَرْ”، “يا ما شالله” و”طَلُّ وشَرَّفْ” (هذهِ الأغنيات ٱمتَزَجَت بِمَقامِ الزِّنكولاه أو الزَّنجران ما أضفى عليها جماليَّةً فريدة)، مُرورًا بِمَقامِ النَّهاوَنْد (Mineur)، بِكُلِّ أشكالِه، وَهْوَ حَبيبٌ إلى قلبَي زياد وجوليا، وعلى سبيلِ المِثالِ لا الحَصر: “نَسِّيني حبيبي” (عملٌ يَتداخَلُ فيهِ النَّهاوند بالحجاز والنَّواأَثَر ما أعطاهُ أبعادًا جديدة)، “وين مسافر” و “يا قصص”، “كِرْمالَكْ”، “رُبَّما”، “حْكاية وطن”، “أَخَدِ القَرارْ”، “بِصَراحَة”، “نِحْنا الثَّورة والغَضَبْ”، “عابَ مَجْدَكَ” و”أَطْلِقْ نيرانَكَ” ومَقامِ الحِجاز (Double harmonique)، مع نَوْعَيْهِ الحِجاز كارْ والحِجاز كارْ كُرْد، وهذا المَقام هو الأوْفَرُ حَظًّا بعد النَّهاوند في أرشيف جوليا الغنائي، والَّذي يُعَبِّرُ أكثرَ ما يُعَبِّر عن القَلَقِ والألَمِ والحُرْقَةِ والحُزْنِ والتَّمَرُّد: “بِخْيَالَكْ”، “حْجارِ المِنْسِيِّينْ”، “ثُوَّار الأرض”، “إليسَّا”، “قُوِّي مَحَبِّي”، “عَلى شو”، “ما عَمْ بِفْهَمْ عَرَبي”، “بْيِنْكِسِرْ هَالليلْ”، “خَوْفي عَ وْلادي”، “عَلى ما يَبْدو”، “تْعَوَّدْنا عْلَيْكْ”، “بِتْنَفَّسْ حِرِّيي”، أشْرَفْ إنسانْ” ومَقامِ الكُرد (Phrygien) المُلْتَفِعِ بالشَّجَن: “وَقِّفْ يا زَمانْ” من ألحانِ المايسترو المُتفرِّد إحسان المُنذر، “لا بْأحْلامَكْ”، “حَبيبي”، “نُقاوِمْ”، “يَوْمًا ما”، “الأفْضَلْ نِبْعُدْ”، “انتصرَ لُبنانْ” وصولاً إلى المَقاماتِ الشَّرقِ عربيَّة الَّتي تحتوي على ثلاثةِ أرباعِ الصَّوت مِثْلَ البَياتي: “غابِتْ شَمْسِ الحَقْ” (وقد تَداخَلَ هُنا البَياتي مع الصَّبا الَّذي صَوَّرَ بِشِدَّة عُمْقَ مُعاناةٍ وَصَرْخَةً مُدَوِّيَة “مْنرْفُضْ نِحْنا نْموتْ/ قولولُنْ رَحْ نِبْقَى/ أرْضَكْ وِلِبْيوتْ/ والشَّعْبِ لْعَمْ يِشْقَى)، “حْكيني”، “وَيْنُنْ حَبايِبْنا” (للمايسترو إحسان المنذر)، “ضَوّا الليل” للموسيقي العالمي إلياس رَحْباني، “شي غَريبْ” (في هذا العمل بعضٌ من البَياتي الشُّوري أو القارْجَغارْ الَّذي
أضافَ روعةً إليهِ وسِحْرًا) والصَّبا في رائعة “يا شَعْبي” والهُزام وَهْوَ من سُلالَةِ السِّيكاه في “مينْ دَلَّكْ” و”حْكايِةْ عَتَبْ” (وَهْوَ عملٌ مُمَيَّزٌ وفَريد)، دون أن نَنسى الإشارةَ إلى مَلْحَمَتِها الغِنائيَّة “أحِبَّائي” الَّتي تبدأُ بالنَّهاوند وتَنتهي بالعَجَم، والإيقاعاتِ الغربيَّةِ والعربيَّةِ المُتَنَوِّعَة من خِلالِ ٱنفِتاحٍ على الغَرب مع مُحافَظَةٍ على الأصالَةِ؛ على أنَّ مُعظمَ هذهِ الأعمال مازالَ صَداها يَتردَّدُ في النُّفوس إلى اليوم؛ إِذْ يَتفاعَلُ معها الجمهور بِإعجابٍ مُنْقَطِعِ النَّظير في كلِّ مَرَّةٍ تُؤَدَّى.
– الشُّعراءَ الَّذينَ دَبَّجوا لَها أجملَ القصائد وأروعَ الأغنيات؛ فَقَدْ شاطَروها النَّظرةَ إلى الحياة، ورُبَّما هِيَ وشقيقُها زياد ساهَما معهم في تَوْقيعِ الدُّرَرِ في عُقود الأغنيات.
– ٱنصِرافَها إلى المَسارِحِ دونَ سِواها، إيمانًا منها بِأنَّ الفنَّ رِسالَةٌ وأنَّ الغناءَ لا يكون إلاَّ في قُدْسِ أقْداسِها، الأمرُ الَّذي عَزَّزَ صورَتَها السَّاطِعَة وحُضورَها الشَّفيف.
– ٱحتِرامَها فَنَّها الَّذي جَنَّدَتْ لَهُ، وزِيادًا، جَيْشًا من الموسيقيِّين وكَوْرَسًا كبيرًا، عَلى نَوعيَّةٍ مُمتازة، وصولاً إلى أورْكِسترات سِمْفونيَّة وفيلْهارْمونيَّة، وهذا نادِرٌ في بِلادِنا العربيَّة دون أن نَنسى دورَ البارِع ميشال فاضل في توزيعِ العَدَدِ الأكبر من أغانيها.
– غناءَها “طِفْلي اللي جايي” من كلمات وألحان الكبير منصور رَحْباني، ومُساهَمَتَها الفَريدة في بُطولةِ مُسلسل “أوراق الزَّمن المُر” إذْ هِيَ خِرِّيجَةُ مَعْهَدِ الفُنونِ الجَميلة في الجامعةِ اللُبنانيَّة.
– دَوْرَ عائلتِها وبيتِها الزَّوجي اللذَيْن وفَّرا لها راحَةً نفسيَّة ودَعْمًا دائمًا وإمكاناتٍ جَعَلَتْها تُجاوِزُ الذَّاتَ وتَتَعَمْلَق.
هذا غَيْضٌ مِنْ فَيْضِ إبداعِ هذه النَّجمة الَّتي شَكَّتْ جَبينًا في كَبِدِ السَّماء لِتُضيءَ مع شَقيقِها المُبدع سَماءَ وَطَنٍ وشرقٍ، كانا مَصْدَرَ الإلهامِ والحَضارَةِ والرِّسالَةِ لِسُكَّانِ هذا الكوكب؛ لَقَدْ صَنَعَتْ لِنَفْسِها وفَنِّها ووَطَنِها مَكانَةً ومَجْدًا لا يُدانيها فيهِما إلاَّ الكِبار.