من وصايا أبي (4)

ألمثقَّفُ لا يقع في الغضب!

elie

إيلي مارون خليل

(أديب وروائي وشاعر- لبنان)

يا بُنَيّ!

إيّاكَ والغضب!

قال أبي هذا، محدّقًا في عينيَّ، مُتَفَحّصًا انفعالي، بروحه الرّضيّة المُرضية.

تجهّم جبيني، تحوّلَ نقطةَ استفهام! لكنّي لم أتفوّه بكلمة. إستغرقْتُ أُفكّر في هذي الوصيّة الّتي نطق بها من دون مقدّماتٍ، كما درجت عادتُه. ولمّا كنتُ لا أزال ساكتًا سألني، هامِسًا:

– ما رأيُكَ؟

ولم يُضِفْ.

إفترستْني الحيرة، فما تهادى كلامٌ على شفتيّ. كرّر، وما كان من عادة أبي،  الخوري مارون، تكرار السّؤال:

– ما رأيُك!؟

– ألتّعبير:”إيّاك والغضب!” وصيّةٌ توقع في العُموميّات. في الحياة ظروفٌ، أحداثٌ، تَصَرُّفاتٌ… قد تؤدّي بنا إلى الغضب! أليس كذلك!؟

– ألأهمّيّة، كلُّها، تكمن هنا! في أن تدفعك الحياةُ إلى ظرفٍ، أو حدثٍ، أو تَصَرُّفٍ… يجعلك تنحرف، فتغضب!

– ألغضبُ انحِرافٌ!؟

– وأيّ انحِراف!

ظهر العجبُ في عُمق عينيّ:

– كيف يكون الأمرُ!؟

– تيقَّن، بُنَيّ، ألغضبُ يُفْقِدُكَ ذاتَك! أنتَ أنتَ، بما يعني الكلامُ، طالَما أنتَ تُسيطر على ذاتك: فِكرًا، كلامًا، تَصَرُّفًا! تُسَيطِر على ذاتك؟ فأنت في طريقك إلى الاكتمال، أقلّه أنتَ تحاول، بجِدّ، فتصل إلى أقرب ما يُمكن منه. فإنْ حقّقْتَ هذا، عرفتَ السّعادةَ عبر السّلام، السّكينة، الطّمأنينة… فأنت تمتلك أعصابَك، توجّه تَصَرُّفاتك كما ترغب!

– أليس في الأمر استِحالة!؟

– في الأمر صُعوبة، لا استحالة! كلُّ ما نعرفُه، أو نقوله، أو نريدُه، أو… نحصُل عليه. ألأمرُ غايةٌ في البساطة!

– كم تُسَهّل الأمور!

– هي هكذا، الأمورُ! أرِدِ القوّة، تأتِك! أرِد امتلاك الذّات، تمتلكْها! درّبْ نفسَك!

– أوضِحْ قليلًا.

– ألقرار خطوةٌ أولى. قرّرْ ذلك، درّبْ نفسَك، مرّة في إثر مرّة، فأنت، ولا بُدَّ، واصلٌ! وافهمْ أمرًا: تغضب!؟ تضعف! تضعف الضّعفَين: المادّيّ والرّوحيّ. كيف؟ تفقد السّيطرةَ على نفسك، فتتصرّف كما لا ترغب، تتفوّه بما لا تريد، توحي بما لا يليق بك… تحطّ من نفسك أمام النّاس، تُفقِدهم احترامَك! وأنت تُحِبُّ أن تكونَ محترَمًا!

– ولكن، تصدمُك، أحيانًا، أقوالٌ، أفعالٌ، تجبرك على الغضب!

– لا أُنكِرُ هذا! ولكن أجهِدْ نفسَك على امتلاك نفسِك، فكّرْ، خفّف من انفعالك… هكذا لا تندفع، عفويًّا، وراء غريزة.

– كيف أتوصّلُ إلى هذا؟

– بالدُّربة. تتوصّل إليها بالإرادة، بالرّغبة، بالشّغَف، بالتّمَنّي! ولا تنسَ! أبدًا، لا تنسَ أنّك، كمثقّف، مِثال! وكرياضيّ، وكمعلّم، وكوالدٍ، وكصديق… أنت مِثال! لا تُسقِطْ نفسَك أمام المتمثّلين بك. لا تخيّبْ آمالَهم بك، فإن فعلتَ انهارت عندهمُ المُثُلُ! تكون قد جعلتَهم يتساقطون، يتخلَّون عن طموحاتهم وتَمَنّياتهم والآمال!

– أليس في هذا…

– صُعوبة، لا استحالة. لا شيء يستحيل عند ذوي الإرادة الحقيقيّة. فمن صفات الإرادة الثّباتُ على الرّغبة في ما نشاءُ تحقيقَه، والعزمُ الدّائم على العمل، وعدمُ التّعب، وعدمُ اليأسِ، … ألإرادةُ، هذه، تُلغي المستحيل!

كنتُ صامتًا أُفَكّرُ، حين أضاف:

– ألغضبُ نقيصةٌ، ألتّرَوّي فضيلة!

– قد يُخرِجُك أحدُهم من ثيابك!

– لن تكون ضعيفًا بهذا القدْر! كلّ مرّةٍ، وأنتَ أمام هبّةِ غضب، مكّنْ ذاتَك في التَّرَوّي. لا تتسرّعْ! لا تنقَدْ، بل قُدْ! لا تنسَقْ، سُقْ! لا تنجرفْ، أجرفْ! مهما حصل، أنت تستطيعُ إيجادَ طريقةٍ للتّفاهم! بسمةٌ، منكَ، لطيفةٌ، تُبَرّدُ احتقانَ مُواجِهِك، تُطفئ الجحيمَ المستعِرةَ في وِجدانه!

– ليس الأمرُ بهذه السّهولة!

– أنتَ مُحِقٌّ! إنّه أكثرُ سُهولةً!

– كيف ذلك!؟  

– إنسانُ عقلٍ، أنت، لا إنسان غريزة!

– تتغلّب الغريزةُ أحيانًا!

– لأنّك لا تُعمِل عقلك! ألعقلُ أوّل، من ثمّ الانفعال، فيأتي معتدِلًا.  

– كيف أستطيع!؟

– شخصيّتُك أساس! تبنيها بثقافتك. ألثّقافة تجعلك متمكّنًا!

إبتسمتُ. قلتُني أوقعْتُه:

– ولمَ غضب يسوعُ في الهيكل!؟ إلهٌ ووقع في ما تَنهاني عنه!

إبتسمَ، هَمَسَ مُتَمَهّلًا:

– لم يكن أظهر ألوهتَه بعد! كان لا يزال يُعاني حَماسةَ الشّباب! هل غضب ثانية؟

سكتُّ أُفكّر. لم أجد جوابًا.

وضع يدَه فوق يدي. أحسسْتُ ينتقل منه إليّ شيءٌ من وحْي. ختمَ:

– ألثّقافةُ نضوج! لا تنسَ الثّقافة، يا بُنَيّ! ألمثقَف هو الأقرب إلى الكمال!

(ألأحد 5- 6- 2016)

      elie- vector

اترك رد