إحذرِ الفَقرَين!
إيلي مارون خليل
(أديب وروائي وشاعر- لبنان)
سألني والدي:
لماذا قال يسوع، موصيًا تلاميذَه:
– ” لا تعبدوا ربَّين: ألله والمال!؟”
– قد يكون عرف أنّ أحدَهم، أو بعضَهم، انحرف عن الله إلى المال!
– أترى هذا؟
– ألرُّسُلُ بشرٌ، إذًا ضعاف.
تكى والدي، الخوري مارون، رأسَه حزينًا، وانقبضَ قلبُه جريحًا.
أردفْتُ:
– كما قد يكون متيقّنًا من أنّ المالَ، ووحدَه المال، يُنافِسُ الله! أوَلا تظنّ!؟
– لذلك أوصيك، أنا، انطِلاقًا من الوصيّةِ هذه، بالآتي:” إحذرِ الفَقرَين، يا بُنَيّ!”
– ألروحي والمادّيّ! حاضر. ألأمرُ سَهلٌ! أنجو من الفَقر الرّوحيّ بالمحافظة على القِيَم وأحيا بها. والمادّيّ بالعمل المُثمِر!
– هذه عاديّة. سأوضِح لك: إمتلِكْ مالك، ولا تتركْه يمتلِكُك! إستعمِلْه لئلّا يستعملَك! تحرَّرْ منه لئلّا يستعبِدَك!
– هلّا أوضحْتَ أكثر! يا أبي؟
– ألمالُ عزيزٌ على الإنسان! لأنّه ضرورةٌ للعيش. إذًا ضرورة مادّيّة. فأنتَ تدّخرُه لأنّك ترغبُ في العيش. تأكل، تشرب، تكتسي، تتطبّب، تعلّم أولادك، تقتني مقتنيات ضروريّة أو كماليّة… وقد تتصدّق، أو تسافر، أو تمارس هوايات أنت وعائلتك، إلخ. هكذا تكون تمتلك مالَك. فأنتَ تُنفِقُه في سبيل الضّرورة: عيشًا مادّيّا، وضرورة هوايات: سفَر، رياضة، إنشاء مكتبة… قد تتساءل، بُنَيّ، إنفاقُ المالِ امتِلاكٌ له!؟ صحيح! فأنت، حين تُنفِقُه، تكون تمتلِكُه! فأنت تتصرّفُ به. أنت تُديرُه. إذًا تستفيد منه. أنتَ حُرُّ التَّصَرُّفِ بهِ. حُرُّ التَّصرُّفِ؟ إذًا، فأنتَ تستعمِلُ مالَك، ولا تتركُه يستعمِلُك مُتَحكّمًا بك، كأنّه يمتلِكُك! تستعمل مالَكَ، أنت؟ فأنت مالِكُه، إذًا! ألمالِكُ الشّيءَ، حُرُّ التّصرُّف بما هو له، بما هو يمتِلك!
– منطق! ساعدتَني! أصبحتُ أكثر فَهمًا، أعمقَ فكرًا، أبعد نضجًا، أصْوَبَ نظرة! والآن، كيف يمتلِكُني مالي!؟
– بأن تجعلَ منه معبودَك، بدل الله! حين تجعل مالَك إلهَك، لا تعود ترى غيرَه. تُوَحّدُهُ. يُصبِحُ غايتَك الوحيدة. تأخذ في جمعه من دون كَلَلٍ. لا ترى سواه. لا تُحِبُّ سواه. يُصبِحُ همَّك الأوّل والأخير! لا تريد سِواه. يُقَيّدُك. فتروح تختزنُه، تعدّه، تتفرَّج عليه، تخشى إنفاقَ، ولو أقلّ مِقْدارٍ منه! هكذا تكون قد “كرّسْتَ نفسَك في سبيله: جَمْعًا وإجلالًا وتبجيلًا وتعظيمًا… بل عِبادةً. فتكون مُقَيَّدًا، لا تستطيع الخَلاصَ منه. هكذا يكون مالُك مالِكَك! وهذا عيبٌ أكبر! إذًا، فالفَقرُ المادّيّ ليس ألّا يكون معك مال، بل أن يمتلكَك مالُك!
إستراحَ أبي، الخوري مارون، قليلًا، وهو يتأمّلني ليعرف مدى تأثيره وتأثُّري. كنتُ متأثّرًا. وكنتُ منتبِهًا لمدى تَناسُقِ حياتِه وتفكيرِه. وكنت به معجَبًا أشدّ الإعجاب. فأبي يفعل ما يقول، ويقول ما يفعل. يحيا منتهى الصّدق. منتهى الحُبّ.
سألتُه، بإعجاب:
– كيف تستطيع أن تكون هكذا، وتستمرّ، ثابتًا كسنديانة، شامخًا كأرزة، شفيفًا كهالة قدّيس!؟ كيف تستطيع أن تتخلّى عن جسدِك وأنت حيٌّ!؟
– لأنّني حيٌّ فأنا أحيا، ولستُ أعيش! وأنت تعرفُ الفارق!
غريبٌ، أمرُه، أبي، الخوري مارون! تسامى، تسامى، فبلغ ما لا يبلغُه بشريٌّ. ولمّا قدّمتُ إليه ملاحظتي، هذه، خجلَ واحمرّ خَدّاه كطفل، قال:
– لا تقل هذا، يا بُنَيّ! ألأمر بسيط. بل في غاية البَساطة. لتكون كما تحلم، أكرّر لك: إمتلك مالَك ومادّيّتَك، ولا تدعهما يمتلِكانك !
لم يكن يرى، والدي، أنّ الأمرَ صعبٌ.
كانتِ القداسةُ، بالنّسبة إليه، أمرًا عفويًّا!..
(ألجمعة 19- 2- 2016 )