ألحبّ صفة، في المعلّم، أولى!
إيلي مارون خليل
(أديب وشاعر- لبنان)
أوصاني أبي وصايا كثيرة كان يستوحيها من خبرته في شؤون الحياة. وقد كانت وصايا صائبة أحببتُها لأسباب منها: أسلوبُ أبي، الخوري مارون، في الكلام؛ وهو الأسلوبُ الّلطيفُ، النّاعمُ، العذبُ، الرّاقي، المؤثِّرُ، الموحي. هكذا أسلوبٌ تُحِبُّه، وتحاولُ العملَ به حياةً وعملًا وقَولًا. بشكلٍ خاصّ، لأنّه انعِكاسٌ لشخصيّة أبي. وأنا أُحِبُّ أبي. مقتنِعًا، كنتُ، بحنانه، بحُبّه، بصوابِ رأيِه. بكلمة: كنتُ مقتنعًا بجملةِ قِيمٍ بها يؤمن، وإيّاها يحيا. ولقد اتّخذْتُه مِثالًا، وما زلْتُ.
ذات يومٍ، وأنا على أبواب التَّخَرُّج من “كلّيّة التّربية/الجامعة الّلبنانيّة”، قسم الّلغة العربيّة وآدابِها، التفت ناحيتي وناداني. اتّجهتُ إليه فَرِحًا، جلستُ إلى جانبه، مركّزًا في عينيه العميقتين العسليّتين الصّافيتين، وكم كنتُ أحِبُّهما لإشراقٍ، فيهما، غريب! وما إن ثبتُّ في مكاني، حتّى قال، بصوته الهامس دومًا: “إنتبه، يا بُنَيّ! قريبًا وتقذفك الجامعةُ إلى التّعليم. خذ منّي هذه الوصيّة، وسيأتي، لاحقًا، دورُ سِواها”. وتباطأ أبي، الخوري مارون، فاشتعلتُ فضولًا، لكنّي ما ألحّيتُ عليه. ما كان ليخضع، أبي، لإلحاح، أو عَجَلة. انتظرتُه يتابع. وأخذتُ أنظر إليه مُعجَبًا، منتظِرا.
لحظات بطيئة انقضت. أغرقَ عينَيه في عينيّ يستقرئُهما. ابتسمَ ابتسامتَه الفائقةَ العُذوبةِ، قال بالعذوبة المعروفِ بها: “وصيّتي، اليومَ، إليك: أن تُحِبَّ تلامذتَك جميعَهم كأنّهم أولادُك! ألحُبُّ صفةُ اللهِ الأولى! وهي رئيسةُ الفضائل، وأبعدُها كمالًا، وأكثرُها رقيًّا، وأشدُّها تأثيرًا، وأخصبُها إيحاءً!”
أغمض عينيه. تنهّد عميقًا. أضاف: “ألتّلامذة أذكياء. جميعُهم أذكياء. يعرفُ واحدُهم مَن يُحبُّه ومَن لا. مَن يُفيده ومن يُسَلّيه. مَن يُثقّفُه ومَن يُضيّع له وقتَه. وأهلُه وثقوا بالمدرسة وبمعلّميها، لذلك سلّموكم أولادَهم. فلا تضيّع ثقةَ الأهلِ هذه.
” يا بُنَيّ! مَن يُحِبّ يُضحِّ. ألتّضحيةُ من أهمّ صفات المعلّم. لا ينجح معلّمٌ غيرُ مُضَحٍّ. لا يستطيع أن يحبَّ معلّمٌ غيرُ مضحّ. ألتضحيةُ بالوقتِ تكون، وبالسّهَر. بالصّحّة تكون، وبالرّاحة. والتّلميذ يعرفُ مَن يُضحّي من معلّميه في سبيله، ومَن لا. وهو يبادل المُحِبّ بالحُبّ.
” لا تميّزْ في معاملتك تلامذتَك. كلُّهم إخوتُك، أو أولادُك! إيّاك والانحياز إلى أحدهم بأيّ داع. لا صداقتُك مع الأهل تشفع لك، ولا مصلحة، ولا أيّ أمرٍ آخر. إبقَ على مسافة واحدة من الجميع، تبقِهم إلى قربك.
” وحين يضطرُّك أحدُهم إلى ملاحظة، أو توبيخ، أو… فحد به جانبًا ووجّه إليه ما تشاء من ملاحظات، أو توجيهات، أو نصائح، أو… تحافظ على كرامته. كرامة التّلميذ مقدَّسة. إن تحافظ على كرامته، يحافظ على كرامتك. والتّلميذ قادرٌ عليك. يستطيع إيذاءك أكثر ممّا تتصوّر.
” إنّ المعلّمَ النّاجحَ، هو المثقّف علمًا وحياة وتصرُّفًا وأخلاقًا وقِيَمًا! وهو يعرف كيف يكون قدوة التّلامذةِ…”
صمتَ والدي. أطرق يفكّر في ما لستُ أحزره. قلتُ له، بلطف وشَغف:
– نصائحُك في الفكر والقلب، يا أبي. سأحبّ التّلامذة وأُضحّي في سبيلهم وأكون على مسافة واحدة منهم جميعًا ومحافظًا على ثقة أهلهم وثقتهم وثقة الإدارة…
– وهذه طريقُ نجاحِك! وإلى التّالية!
(ألاثنين 15- 2- 2016)