بلال حسن التل
(كاتب- الأردن)
أعتقد أن مرحلة الاستحقاقات الدستورية التي بدأت بحل مجلس النواب واستقالة حكومة الدكتور عبدالله النسور, وهو ابن وطن نشهد له بسعة الصدر التي مكنته من تحمل كل هذه السيول من الانتقادات التي وصل بعضها إلى حد الشتيمة المباشرة والتي أثبتت من خلالها أنه رجل دولة صبور ومثابر , وقادر على اتخاذ القرارات الصعبة التي تفتقر إلى الشعبية.
أقول إن مرحلة الاستحقاقات الدستورية التي سيقودها الدكتور هاني الملقي وهو أيضا ابن وطن من صلب ابن وطن, اختاره الحسين ليكون أول رئيس وزراء في عهده لتظل ذكراه العطرة صفحة ناصعة في تاريخنا السياسي نرجوا أن تكون صفحة ابنه مثل صفحته ناصعة, وهو يقود هذه المرحلة التي تستحق منا أن نجعلها مرحلة تهدئة وتدبر, وتدريب للنفس على ثقافة التُبين, والأهم من هذا استعادة الثقة بالنفس والوطن, مؤسسات ورجال, دون أن يعني ذلك أن نهمل المراقبة والمتابعة بموضوعية نعبر من خلالها عن حبنا لوطننا, وإخلاصنا ومشاركتنا في صناعة مستقبله, عبر الكف عن نهش لحمه.
في كل مناسبة كما حدث عند حل البرلمان واستقالة الحكومة فلم تكد تمضي ساعة أو بعض ساعة على استقالة الدكتور عبدالله النسور, وتكليف الدكتور هاني الملقي, حتى بدأت بوصلة الاتهامات والانتقادات تنحرف من الرئيس المستقيل باتجاه الرئيس المكلف, في ممارسة صارت من الرذائل الاجتماعية في بلدنا, الذي أدمن الكثيرون من أناسه نهش لحمه, وكأنه ليس وطنهم, وكأن رجاله ليسوا أبناءه, وكأن مسؤوليه ليسوا من طينة هذا البلد, الذي ابتلي في سنواته الأخيرة بهذا المرض العضال, أعني مرض نهش اللحم, والتطاول على كل شيء, بما في ذلك الرجال والمؤسسات,وهما من أهم مكونات الوطن والدولة, ذلك أن الأوطان تُعرف برجالها.
فإذا كان كل المسؤولين في الأردن فاسدون فإن ذلك يعني أن المجتمع الأردني كله فاسد, وأن تربته تربة فاسدة, وهذا ليس صحيحاً, لكن الصحيح أن مجاميع من أصحاب الصوت العالي احترفت نهش الوطن عبر تشويه سمعة رجاله ومؤسساته, ساعدهم على ذلك غياب ثقافة التبُين عن مجتمعنا, علما بأن التبُين تكليف شرعي يقع على عاتق كل فرد لقوله تعالى « إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا», وغياب ثقافة التبُين المأمور بها شرعاً يقود إلى مخالفة شرعية أخرى, ومرض اجتماعي آخر, هو مرض الغيبة التي شبهها القرآن الكريم بأكل لحم الميت تقبيحاً لها ونهياً عنها, فما بال أقوام منا استمرؤا القبيحة, واستحلوا الحرام, بأكلهم للحوم الناس غيبة ونميمة دون تبُين, وهي آفة تسهم في توهين مجتمعنا وإضعاف وطننا, وجعله مرتعا للإشاعات الهدامة التي تقتل ثقة الناس ببعضهم البعض مثلما تقتل ثقتهم بوطنهم وبمؤسساته ورجاله.
كثيرة هي الدلالات السلبية لممارسة نهش لحم الوطن من خلال نهش رجاله ومؤسساته وتلطيخ سمعتهم,أولها أن البعض يتعامل مع وطننا ودولتنا كأنما هو وطن أعداء ودولة معادية يهمه أن يضعفها من خلال إضعاف الثقة بها, وإضعاف الثقة بين مكوناتها, وإضعاف الثقة برجالها ومؤسساتها. وهذا البعض يستغل عطش الأردنيين للإشاعة فيغذيها من خلال بث الكثير من الإشاعات التي تسهم في اغتيال الوطن وتصويره على أنه مستنقع فساد لا ينبت إلا فسادا,ً وهذا خطر حقيقي يهدد وطننا ومجتمعنا علينا الكف عن تسعير أوار نيرانه من خلال تنمية ثقافة التبُين في مجتمعنا والإيمان بأن هذا وطننا الذي علينا حمايته وتعظيم الثقة به.
الدلالة الثانية من الدلالات السلبية لممارسة نهش لحم الوطن, هي دلالة غياب خلق الاحترام, وصفة الموضوعية, ونهج النقد البناء, لتحل محل ذلك كله لغة الشتائم والاتهامات والتجني من خلال غياب الموضوعية, علما بأن مجتمعنا أشد ما يكون حاجة إلى قيام حركة نقد علمي موضوعي لما يجري فيه من ممارسات رسمية وأهلية, سياسية واجتماعية واقتصادية وتربوية, وغياب هذه الحركة واستبدالها بالشتم والاتهام الذي لا يستند إلى دليل واحد من أهم العوامل التي تعيق قيام حركة إصلاح حقيقية للأخطاء التي تقع في بلدنا , لأن التعميم يساعد على إخفاء المخطئ الحقيقي من جهة, ويمنع غيره من العمل خوفا من أن تسلقه ألسنة الغيبة, وتجلد ظهره سياط الإشاعة, وهي من الممارسات الخاطئة التي نمارسها في معظم جوانب حياتنا, أعني ممارسة التعميم التي لا تساعد على تحديد المخطئ أو الفاسد الحقيقي, وهذه الممارسة تزدهر في المجتمعات التي لا يجرؤ أبناؤها على تحمل نتيجة وضريبة مواقفهم, فيهربون إلى التعميم وإلى إدعاء البطولات الكاذبة, التي تزدهر بدورها عندما تغيب المؤسسات الأهلية القادرة على تأطير الناس والتعبير عنهم وهذا خلل نعاني منه,وعلينا أن نصححه, ونعتقد أن بدء مرحلة الاستحقاقات الدستورية فرصة مناسبة لتكون بداية لهذا التصحيح وأول ذلك الكف عن نهش لحم الوطن.