خالد غزال
(كاتب وباحث- لبنان)
تتعثر المفاوضات حول الأزمة السورية وتتناقض مواعيد الجولة الجديدة في جنيف، ويجري اختراق الهدنة الموقعة في شكل يومي من قبل النظام الحالم بالحسم العسكري، فيما يلف الغموض الموقف الأميركي الذي لم تعد مواقفه مفهومة تجاه الأزمة السورية، ويسير الموقف الروسي في خط ثابت من التصعيد السياسي والعسكري. يجري كل ذلك والشعب السوري مستمر معلقاً على الجلجلة ينتظر الموت اليومي من دون أن يرى أملاً في الخلاص القريب.
ينظم الموقف الأميركي من الأزمة السورية خيط ثابت قوامه عدم الحسم في إنهاء هذه الأزمة التي باتت مدار توظيفات سياسية مختلفة بالنسبة الى الإدارة الأميركية. فهي تتدخل عسكرياً ولا تتدخل في الوقت نفسه، تشارك في قصف تنظيم داعش وتمتنع عن إرسال قوات عسكرية على الأرض على غرار ما فعلته في العراق. في الموقف من النظام السوري ورئيسه، شهدنا أعجب المواقف المتناقضة منذ بداية الأزمة حتى اليوم. يرتفع التصعيد وصولاً الى الإصرار على رحيل الأسد بالنظر الى انه الحلقة المركزية في المشكلة، ورحيله هو المدخل لإنهاء الأزمة السورية، وهو أمر صحيح جداً. لكن، في كيفية خروجه او إخراجه، يكمن موقف آخر يضمر عكس التصريحات العلنية للرئيس الأميركي ووزير خارجيته، بحيث باتت هذه المواقف مدار سخرية من شدة تناقضها بين يوم وآخر.
على رغم مساهمة الموقف الأميركي بصياغة قرار مجلس الأمن 2254، وقبلها وثيقة جنيف عام 2012، وعناوين المرحلة الانتقالية، الا ان الموقف الأميركي سرعان ما يمتنع عن الضغط الفعلي لتنفيذ هذه التعهدات، وينطلق وزير خارجيته الى البحث عن «دور خلاق» للرئيس الأسد. يترافق ذلك مع العمل الدؤوب لمنع تسليح المعارضة السورية والحياز على أسلحة نوعية يمكن لها ان تعدل نسبياً في موازين القوى العسكرية على الأرض. أما المهزلة الأكبر فهي ما جرى الترويج له اميركياً عن وجود خطة «ب» جاهزة للتنفيذ ضد النظام اذا رفض الخضوع لمقررات الأمم المتحدة واستكمل حربه على الشعب السوري. مرة أخرى، لا يمكن الا الاشتباه بالموقف الأميركي الذي لا يزال يتعاطى مع الأزمة السورية على انها ازمة تكمن فيها استثمارات اميركية استراتيجية لجهة إغراق قوى خارجية في وحولها من قبيل ايران والميليشيات التابعة لها واستنزاف هذه القوى، والإفادة من الحرب السورية عبر الادعاء بمحاربة الإرهابيين قبل ان يطأوا الأرض الاميركية. في الوقت نفسه، لا يقلق الاميركيين التدخل الروسي وغرقه أيضاً في الوحول السورية، الى درجة يتساءل فيها كثيرون عما اذا كانت الإدارة الاميركية قد سلمت روسيا إدارة الأزمة وإيجاد الحلول اللازمة لها.
مما لا شك فيه أن التدخل العسكري الروسي في سورية خلق ظروفاً مواتية للنظام السوري في تثبيت مواقعه على الأرض بعد أن كان على وشك الانهيار. كما ان هذا التدخل أضعف قوى المعارضة في بعض المناطق، من دون ان يدخل تعديلاً على مواقع تنظيم داعش ونفوذه على الأرض. كما هناك اشتباه بالمواقف الاميركية، هناك اشتباه أكبر بالأهداف الروسية في سورية. في الشكل، تدعي المواقف الروسية انها آتية لمحاربة الإرهاب الداعشي في سورية قبل ان ينتقل الى أراضيها على غرار الادعاءات الأميركية. في الترجمة العملية، بدا همها الأكبر منع سقوط الأسد بل والمراهنة عليه في المعركة ضد الإرهاب، من دون أن تأخذ في الاعتبار ان الرئيس الأسد ونظامه هما مصدر الإرهاب الأساسي وخالقي تنظيم داعش بالذات. التناقضات في المواقف الروسية واضحة ايضاً، مرة يخرج الرئيس الروسي ووزير خارجيته بتصريحات تقول إن روسيا لا تدعم الأسد وليست معنية ببقائه او عدم بقائه، انما هي معنية بدعم الجيش السوري الذي يحارب الإرهاب، لترفد ذلك بتصريحات عن التمسك بالأسد ونظامه، والدعوة الى حكومة وطنية برئاسته. يقترن ذلك بالتلاعب بنصوص وثيقة جنيف وما تنص عليه المرحلة الانتقالية فيها. اما ادعاء الإدارة الروسية عن انسحاب من سورية، فليس فيه اي شيء من الحقيقة، فالوجود الروسي لا يزال قائماً، والقصف يزداد يوماً بعد يوم، والتصرف على أساس ان مفاتيح حل الأزمة السورية بات في عهدة الرئيس بوتين ووزير خارجيته لافروف.
وسط التراقص والتلاعب والتناقض في المواقف الاميركية والروسية، تتواصل «المذبحة» للشعب السوري، وتتنقل البراميل المتفجرة بين منطقة وأخرى لتحصد المزيد من الموت والدمار. يصحب ذلك مزيد من التهجير للشعب السوري ومزيد من المعاناة والإذلال. لم يكن ينقص هذا الشعب سوى التدهور المتمادي في سعر صرف الليرة السورية الذي وصل الى أخطر مراحل الانهيار، والذي ينعكس اليوم موجة ارتفاع هائل في الأسعار، ومزيد من الإفقار والتدهور في مستويات المعيشة، ونهب متزايد وفساد مستفحل. انها التراجيديا بكل منوعاتها، المتواصلة من دون رصد بريق أمل لنهايتها.