مصرع أيديولوجيا اليسار على أرض العرب
ابو يونس معروفي عمر الطيب
المقدمة
يقول بن طباطبا: “واليد تنعم بالملمس اللين الناعم وتتأذى بالخشن المؤذي والفهم يأنس من الكلام بالعدل والصواب الحق والجائز المألوف ويتشوف إليه ويتجلى له ويستوحش من الكلام الجائر والخطأ الباطل والمحال المجهول المنكر، وينفر منه ويصدأ له.
فإذا كان الكلام الوارد على الفهم منظوما مصفى من كدر العي مقوما من أود الخطأ واللحن سالما من جور التأليف موزونا بميزان الصواب لفظا ومعنى وتركيبا اتسعت طرقه ولطفت موالجه فقبله الفهم وارتاح له وأنس به وإذا ورد عليه على ضد هذه الصفة وكان باطلا محالا مجهولا انسدت طرقه ونفاه واستوحش عنه حسه وصدئ له (1) ويقصد بهذا القول ما يكون عليه الوسيط الذي تقتضيه عملية الاتصال، فلا يكفي وجود مرسل ومرسل ورسالة كوساطة بينهما إن لم يكن هناك اتفاق مسبق، ولا يخرج عن هذا المفهوم ذلك التواصل الذي يحدث بين المبدع والقارئ. فذاك مرسل معلوم وهذا مرسل إليه مجهول الهوية.
ولكن لا يتم تشكيل الخطاب إلا بحضوره في ذهن المبدع فتكون الواسطة التي يلتقيان داخلها، فإما الجفاء والقطيعة وأما المودة والتآلف والتواصل المستمر.
ويصف الدكتور محمد مبارك، صاحب كتاب استقبال النص عند العرب، هذه العملية التواصلية والفهم المشترك، بأنها أكثر العمليات الأدبية دقة وصعوبة، لأنها تلخص العملية الإبداعية برمتها باعتبار أن هناك دافع يؤدي إلى إنتاج النص، وتقابله استجابة التلقي كحتمية تلازمية.
فالعملية في نظره تقتضي أن يتوصل الطرفان إلى الوعي بأهمية العامل المشترك بينهما، وهو النص لتهيئة المجال لنمو النص في ذهن المتلقي. ولا يكتمل ذلك إلا بإدراك القيم المتضمنة في كل إبداع أدبي، لأنه السبيل الذي يجعل أحدهما مفهوما من الآخر (2).
مبدئيا هناك جملة من العوامل المشتركة أساسها لغة التخاطب، وللغة ركائز ترتكز عليها، فتنطلق منها عند استحضار المتلقي ومحاورته محاورة جادة، والبدء تواصلا يقتضي الأقرب كنقطة محورية أساسية لا يمكن تجاوزها والابتعاد عنها إلا باتفاق ضمني، يكون فيه للمتلقي رأي يلزم المرسل باحترامه في حدود الإمكان، وما من شك أن باختين وهو يتحدث عن الإيديولوجيا في الرواية على أنها مادة أولية في بناء الرواية، كان يتحدث عن ذلك العامل المهم في عملية التوافق، لأن النص لا يمكن له التموقع خارج الواقع الأيديولوجي المنبعث منه كلغة تختزن مقومات تاريخية عقائدية داخل حيزها الجغرافي بداية، ثم تتوسع بعدها إلى ذلك البعد الإنساني في مثاليته المنشودة .
وما دمنا بصدد البحث في الرواية كمادة إرسال وتلقي لا تخرج عن هذا السياق، فإننا يجب أن نبحث في كيفية التوصل إلى توافق ضمني بين المرسل والمرسل إليه، وكل له أيديولوجيته الخاصة، هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن كل نص روائي يُبنى على المبدأ الحواري الذي تتصارع فيه شخصيات بأيديولوجيات مختلفة، ما يجعل المبدع مقيدا، إلى حد ما، في إدارته للصراع، لأن «العمل الأدبي يمتلك قطبين يمكن تسميتهما بالقطب الفني، والقطب الجمالي. ويعني الأول النص كما أبدعه المؤلف، أما الثاني فهو تحقيق القارئ له(..) ومن التقاء النص بالقارئ يولد العمل الأدبي» (3)، وهكذا فإن المبدع الذي لا يلتزم بإدارة إيديولوجيات النص بما يضمن التكافؤ والحياد سيرد له خطابه إن آجلا أم عاجلا.
إنّ باختين في معاكسته للنظرة الماركسية يرفض الكلام عن موقف الكاتب أو على الأصح، يعتبر الموقف الجوهري للكاتب هو الحياد أمام صراع الأيديولوجيات، فلا يتدخل أبداً لصالح إيديولوجية دون أخرى إلى الحد الذي يعجز فيه القارئ على تحديد الموقف الحقيقي للمبدع، لأن الحياد من منظور أيديولوجي هو أيضا موقف أيديولوجي، إلا أنه عندما يكون في إطار فني إبداعي يكون غالبا معبرا عن حيرة معرفية وإنسانية مثيرة للمشاعر (4) وهو الذي يصنع التوافق الذي ذكرنا.
ولكن حين يحاول المبدع توجيه فكر الناس في اتجاه مضاد عن طريق مناقضة المعتقدات النظرية التي كانت من قبيل المسلمات في عصره”(5)، وينزع إلى التوظيف المادي أساسا للصراع مثلما يرى ماركس الذي ينظر دائما إلى الجانب الاقتصادي بوصفه العامل النهائي الذي يتحكم في غيره من الجوانب الأخرى، وهو إهمال واضح للقارئ بما يحمله من معتقدات ومفاهيم وإلغاء لدوره في عملية التحقيق. ومهما اجتهد صاحبه في تصديره ضمن قالب فني إبداعي فإنه سيظل يمثل غزوا فكريا يثير مشاعر الاشمئزاز والنفور.
ولكن هذا الفكر الماركسي بما يحمله من نظريات سياسية وعقائدية سيطر على جزء كبير من الفكر والفلسفة، وقد وجد العقل العربي أرضا خصبة كانت لسياسة التجهيل الاستعمارية، فضلا في الرضوخ له بسهولة والانجذاب لشعارات التحرر والعدل والإخاء والمساواة التي كان يتغنى بها هذا الفكر.
وهكذا قفز المفكرون والساسة العرب في حضنه وتبنوه فروجوا له حتى أن منهم من صنف النبي محمد صلى الله عليه وسلم كزعيم ثوري (6)، فظهر التزامهم الشيوعي سياسيا كسلطة حاكمة وفي كل الفنون الأدبية كاستعمار ثقافي. وفي خضم ازدهار الشيوعية واحتلالها القطبية الثنائية آنذاك نزع كتابها والمتعاطفون معها والانتهازيون إلى الخوض في الأدب بكل أجناسه ملتزمين بالتوجيهات الماركسية، محاولين فرض الواقعية الاشتراكية في كل نظرياتهم الفكرية.
ففي الجزائر يمكن “الاستشهاد بكتاب كاترين سيمون “الجزائر سنوات الأقدام الحمراء” الذي تسلط فيه الضوء على مرحلة هامة من تاريخ الجزائر غداة الاستقلال، فهي تجمع فيه شهادات لعناصر شيوعية قدمت إلى الجزائر في إطار مد يد العون لبناء مؤسسات الدولة الفنية، لكنها ما فتئت أن تسللت إلى مفاصل الدولة بغرض خلق حالة من الإرباك والتشويش على توجهاتها وجرها للابتعاد عن المبادئ التي قامت على ثورة التحرير المباركة” (7).
ومن بين الأسماء المتواجدة ضمن الفوج الأول الذي وصل إلى الجزائر نجد فرنسواس لفي شقيقة الصهيوني برنار ليفي Bernard Henri Lévy الذي قام بدور تحطيم ليبيا، وهو ما جاء في ص 24 من كتاب “تشكيل تيار أفكار وطنية” على لسان الدكتور مشال مارتيني Michel martiniالذي قدم إلى الجزائر وكله أمل “في المساعدة في بناء نظام اشتراكي والمكوث بالجزائر”. ولم يكتفوا بذلك بل نجدهم قد تسللوا إلى كل ثوابت الأمة في محاولة منهم للعبث بها، وها هو مالك بن نبي يذكر قصته مع بركات شعبان وهو شيوعي، حيث قام بطريقة غير مشروعة بترجمة كتابه “مستقبل الإسلام”، دون إذن من صاحبه، ونشره دون أن يذكر على الغلاف اسم مؤلفه، وهو أحد أوجه السرقة. وحسب المؤلف فإن السارق لجأ إلى بعثرة الأفكار وهذا حتى لا تأتي تحت نفس الاسم كطريقة للانتقاص من قيمة الشيء. وفي رأيي فإنهم إنما شرعوا في التسلل إلى المجتمع بشتى الطرق والوسائل حتى عن طريق الدين الإسلامي (8) لصناعة واقعية اشتراكية بكل الأساليب، فلم يراعوا للقارئ حرمة في كل ما أنتجوه، فسخروا من دينه ولوثوا تراثه وعابوا عليه التواصل مع سلفه من العلماء، محاولين فرضها كفكر شاذ لطالما انتصب في كتاباتهم كأنها التي تحرك العالم وتديره كما يشاء أصحابها .
ونحن من خلال قراءتنا لرواية الطلياني للكاتب اليساري التونسي شكري المبخوت، وجدنا هذه الواقعية الاشتراكية تلملم أشلاءها من جديد على يد هذا الروائي، وكنا نحسبها بما تحمله من أفكار ولدت ميتة، قد دفنها الروس حين فككوا اتحادهم الاشتراكي المزعوم وهو بالضبط ما سوف نقف عليه في هذا العمل الروائي وفي تناصه مع رواية “اللاز” للطاهر وطار .
* * *
القراءة المجيزة وتأثيرها على لاوعي القارئ
إنّ تثمين وانتقاء أي عمل روائي من طرف زمرة معينة من المروي لهم، بغض النظر عن وظائفهم الأدبية ومستوى التلقي لديهم، لا يعد بأي حال من الأحوال مقياسا موضوعيا، لأن هؤلاء ما هم إلا جزء يسير من كتلة القراء، باعتبار أن “النص في صراعه مع عناصر الكتلة لا يرضى أن يكون مقروءاً فقط، بل يحلم بإثارة جملة من التفاعلات تعود على صاحبه نهاية الأمر، بما يُقوّمُ به نزعته وتوجهه العام، أو يفتح أمامه آفاقاً أرحب وأوسع.” (9). إذا فهؤلاء لا يستعطون بأي حال من الأحوال النفاذ خارج دائرة السيطرة والتأثير النصي ثم التفاعل معه تعاطفا أو شذبا، ومن ثمة لا يمكن أن يصنف رأيهم فوقيا يُعتد به كمعيار ذا ديمومة، “لأن الدور الذي تقوم به لجان القراءة ما هو إلا سلطة تنضاف إلى جملة السلطات التقييدية التي يرزح تحتها الإبداع” (10).
وهكذا “فالقراءة المجيزة” التي تميز بها لجان التحكيم الأعمال المترشحة، والتي هي قراءة من بين عدة قراءات يقع فيها ما يحصل في غيرها من نجاح أو إخفاق. وحين يصيب القراءة المجيزة خلل ما لا يمكن للجائزة إلا أن تكون بتراء” (11). فإذا كان انتقاء اللجنة لأي عمل يُمكن له التثمين فإنه في حقيقته سيظل مجرد فعل إشهاري، كأي عمل تقوم به وكالة إشهار تدفع بالمنتوج إلى واجهة العرض فقط”. ويدخل الإشهار كلغة تحريضية -ذات شأن- في ترويج السلعة فتنتصب في وجه “المستهلك” بتقنياتها المتطورة “لتفرض” المنتوج فرضاً يستقر في اللاوعي العام فينقاد إليه” (12)، ويبقى بعد ذلك دور الذوق والطعم ومدى تفاعل هذا مع ذاك.
فالتتويج في حقيقة تثمين للبضاعة يصنع الرغبة لاقتناء المنتوج لدى المستهلك “القارئ” فقط، وقد يستمر تأثير هذا التتويج أو الإشهار، إن صح التعبير عند البعض، فيصدرون قرارات ودراسات تتوافق والرأي الذي أفرز عملية الإشهار، كما هو الحال بالنسبة للكثيرين الذي أبدوا إعجابهم برواية “الطلياني” مع تفاوت مستوياتهم، فظهر التمجيد إما لتعصب وإما لعدم تمييز، أو أتى كمجاملة ولم يخرج عن الإطراء إلا قليلا، وهؤلاء لم يستمر تأثير التتويج عليهم طويلا، لأن بعضا آخر من القراء هم “جمهور على درجة عالية من الذكاء والذوق والمعرفة، إنه خبير بسرّ العملية الإبداعية وقواعدها وآفاقها، فهو ينتظر من الكاتب تجسيد ذلك الأفق، وتحقيقه في صورة تضمن اللذة والمتعة على السواء. أو تفسح صدر النص لجملة من الصراعات المثمرة بين القارئ والنص من جهة، وبينه وبين الكاتب من جهة أخرى” (13).
والمؤكد أن رأي اللجنة سيلازم القارئ منهم عند امتطائه صهوة القراءة، وقد يُربكه لفترة معينة، غير أنه سرعان ما يتراجع ويتلاشى وتصبح “اللغة المستعملة أو اللّسان المسند إلى الذات المتكلمة” (14)، هو وحده القادر على صناعة (الفعـل التأثيـريL’acte perlocutoire ) لشد القارئ إذا ما وظفت الوسائل الكلامية بتقنية احترافية في تشكيل الخطاب للوصول إلى الهدف، شريطة أن لا يكون ذلك بمعزل عن المحيط ، وأن لا يكون تعامله مع جمهوره المستحضر زمن عملية البناء النصي فوقيا، متعاليا، لأن التغريد هنا سيصبح خارج سيمفونية السرب. فلا كتابة من دون قراءة، لأن كل خاصية لغوية في أسلوب الخطاب تطابق خاصية نفسية كما يرى (أمادو ألونسو)، ويعني هذا أن الخصائص اللغوية والقيم التعبيرية للغة كاشف للدوافع النفسية وفي الخطاب الروائي، فهي كشف عن نوازع السارد من قبل المسرود له وهي أولى درجات الفهم والاستيعاب” (15).
في النهاية فإن انطباع اللجنة يلزمها وحدها، وما تتويجها رواية الطلياني بجائزة البوكر العربية إلا فعل إشهاري ربما نتج عن تطابق في إيديولوجيات الكاتب وأعضاء اللجنة، ورغم ذلك فهو الذي دفعني دفعا ككل القراء إلى البحث عنها وقراءتها.
(الجزائر مايو 2016)
الحواشي
1- ابن طباطبا العلوي عيار الشعر ص 14 ذكره الدكتور .محمد مبارك استقبال النص عند العرب ص 154 .
2- ابن طباطبا العلوي عيار الشعر ص 14 ذكره الدكتور .محمد مبارك استقبال النص عند العرب ص 154 .
3- جورج بليخانوف الفن والتصور المادي للتاريخ، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، ط1، 1977. ص 116 – 118.
4- الدكتور حميد لحمداني النقد الروائي والايدولوجيا من سوسيولوجيا الرواية إلى سوسيولوجيا النص الروائي ص 52 انظر الهامش أيضا
5- دليل القارئ إلى النظرية الأدبية المعاصرة” “Guide to contemporary literary theory” أنظر رامان، سلدن،
6- النظرية الأدبية المعاصرة، ترجمة جابر عصفور، دار قباء (القاهرة)، د ط، 1998، هامش ص 40.
7- تصريح رشيد بوجدرة الذي أعلن فيه إلحاده بقناة الشروق الجزائرية حصة المحكمة – الجلسة الثامنة – 03/06/2015,
8- مالك بن نبي , في الحضارة وفي الايديولوحيا (نصوص غير معروفة ) ترجمة , تقديم وتعليق محمد بغداد باي الم الافكار الطبعة dl 2167 /2013 ص 83
9- مالك بن نبي , في الحضارة وفي الإيديولوجيا (نصوص غير معروفة ) ترجمة , تقديم وتعليق محمد بغداد باي الم الافكار الطبعة dl 2167 /2013 ص 85.
10- القـراءة و الحداثـة مقاربة الكائن والممكن في القراءة العربية ص206من منشورات اتحاد الكتاب العرب2000 للدكتور حبيب مونسي
القـراءة و الحداثـة مقاربة الكائن والممكن في القراءة العربية ص204 من منشورات اتحاد الكتاب العرب2000 للدكتور حبيب مونسي
11- الجوائز العربية..المكافأة المبتورة المصدر :السعيد يقطين الجزيرة نت 25/2/2016
12- القـراءة و الحداثـة مقاربة الكائن والممكن في القراءة العربية ص204 من منشورات اتحاد الكتاب العرب2000 للدكتور حبيب مونسي
13- القـراءة و الحداثة مقاربة الكائن والممكن في القراءة العربية ص206من منشورات اتحاد الكتاب العرب2000 للدكتور حبيب مونسي
14- – J. Dubois et al (2001) : Dictionnaire de linguistique, Paris, Larousse.
15- د .محمد مبارك استقبال النص عند العرب ص 63