خالد غزال
(كاتب وباحث- لبنان)
يعالج كتاب «نكران الثقافات» للباحث الفرنسي هوغ لاغرنج معضلة المهاجرين العرب والأفريقيين والآسيويين في البلدان الأوروبية. فيرصد موجات الهجرة وكيفية تعاطي المجتمعات الغربية مع الوفود الآتية في محطات مختلفة، من استقبال وترحيب بالنظر الى الحاجة الأوروبية للعمالة الأجنبية التي تقوم وتنفذ أعمالاً وخدمات يأنف الأوروبي من القيام بها، الى مواقف متطرفة وعنصرية تجاه هؤلاء المهاجرين لا تتورع عن الدعوة الى نبذهم وطردهم. خلال السنوات الأخيرة من القرن الجاري، تفاقمت قضية المهاجرين بعدما دخل عنصر الإرهاب إلى مجتمعاتهم وانخرطت عناصر منهم في عمليات انتحارية.
وتتعاظم المشكلة اليوم مع الانفجارات العربية والحروب الأهلية التي عادت لتدفع بآلاف المهاجرين نحو البلاد الأوروبية، مما جعل القضية موضوعاً سياسياً بامتياز، يجرى التعاطي معه بعيداً عن الاعتبارات الإنسانية.
يأتي كتاب «نكران الثقافات» (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات- ترجمة سليمان الرياشي ومراجعة أحمد مراد وسعود المولى) ليسلّط الضوء في شكل مكبّر على هذه القضية الإشكالية من خلال رصدها في تطورها التاريخي وفي كيفية توظيفها سلباً أو إيجاباً.
يطلق الكاتب على المرحلة الأساسية من تدفق المهاجرين تعبير «العقود الثلاثة المجيدة»، وهي مرحلة احتاجت فيها أوروبا الى يد عاملة لتواكب النهوض الصناعي فيها. في هذه المرحلة، تم تقديم تسهيلات لاستقبال هؤلاء المهاجرين من افريقيا خصوصاً وبعض بلدان آسيا. وكانت أوروبا في حاجة الى اليد العاملة المهاجرة لتعويض النقص في الخدمات والأعمال التي لا يقوم بها الأوروبي (خصوصاً في مجال النظافة وكل ما يتصل بها). لم تكن البلاد الأوروبية في تلك الفترة تعاني أزمة اقتصادية وبطالة، لذا كان التعاطي مع المهاجرين يتسم بالليونة لجهة القوانين المنفذة واحترام ثقافات وعادات المجتمعات التي أتوا منها. في موجة ثانية، وخصوصاً في ثمانينات القرن العشرين، تزايدت الهجرات غير الشرعية، كان على الدول الأوروبية السعي الى وضع حدّ لها وتنظيمها الى أقصى حدّ. في السنوات الأخيرة، استفحلت موجات المهاجرين في شكل باتت فيه قضية سياسية واجتماعية وميداناً لقوانين سياسية وصراعات داخلية بحيث أصبحت جزءاً من برامج القوى السياسية، في تنظيمهم ورفض وجودهم وتسعير الأفكار العنصرية ضدهم.
بين عقود الترحيب وسنوات الكره الأخيرة، كانت أوروبا تتحول اقتصادياً تحت تأثير العولمة والثورة التكنولوجية اللتين أصابتا قطاعات اقتصادية أساسية، جعلتا اليد العاملة تنخفض في هذه القطاعات، لتزداد معها البطالة، ثم لتنخفض أيضاً مستويات المعيشة. بدلاً من تركيز السجال داخل الأحزاب السياسية على طبيعة النظام الرأسمالي والأزمات الاجتماعية التي يولدها، انحرفت سياسات بعض الأحزاب اليمينية، بخاصة نحو تحميل المهاجرين الجزء الأساسي من الأزمة الاجتماعية، عبر التركيز على الخدمات التي تقدمها لهم الدولة على حساب السكان الأصليين، أو من خلال نقد الموازنات المالية المخصصة لمجتمعات هؤلاء المهاجرين.
هكذا شهدنا على امتداد العقود الماضية صعوداً لأحزاب يمينية متطرفة ترى في المهاجرين عدواً للسكان الأصليين، كما الجبهة الوطنية في فرنسا مثلاً. لم تكن سياسة اليمين وحدها في صف العداء، بل إن الارتباك طاول أيضاً أحزاب اليمين والوسط، تحت وطأة المزايدات الشعبوية ضد «الأغراب».
لا يكتفي الكاتب بمتابعة السياسات الرسمية ومواقف القوى الاجتماعية الأصلية، بل يدرس مسؤولية المهاجرين أنفسهم عن الواقع الذي وصلت إليه البلدان الأوروبية تجاههم. يحمل المهاجرون العرب والمسلمون منهم عادات وتقاليد متكئة على منظومات ثقافية تختلف كثيراً عن تلك التي تحملها المجتمعات التي أتوا اليها.
وعلى رغم عقود من الاستيطان، ظلت غالبية المهاجرين عاجزة عن التأقلم مع ثقافة المجتمعات الجديدة، بل على العكس، جواباً على هذه الثقافة تحولت أحياء المهاجرين الى ما يشبه الغيتوات.
هذا الانكفاء على الذات واستعصاء الاندماج الى حد بعيد من جانب المهاجرين، مقرونَين بسياسات رسمية تمارس عملية تهميش لهذه القوى، وإبقاء الأحياء في حالة من البؤس الاجتماعي والاقتصادي، يضاف اليها النظرة العنصرية والدونية من جانب السكان الأصليين، جعلت من المهاجرين وأحيائهم ما يشبه القنابل الموقوتة، وأفرزت حالاً من العنف داخل المهاجرين انفسهم وفي العلاقة مع بنى المجتمع الأصلي. لعلّ أعمال العنف الأخيرة في فرنسا خير دليل على انفصام حكم المهاجرين والسكان الأصليين.
إنّ حال الانعزال من جانب المهاجرين وتكوينهم لغيتوات من أجل الحفاظ على ثقافتهم بمختلف تنوعاتها ومنع ذوبانها في المجتمعات الجديدة، لم يكونا جديدين، فهما لازما كل موجات الهجرة، ليس فقط في فرنسا وأوروبا، ولكن في سائر القارات الاميركية والاوسترالية. لكنّ الجديد الذي يعود الى سنوات خلت هو اقتحام التنظيمات الاسلامية المتطرفة لمجتمعات المهاجرين، والإفادة من العزلة والهامشية والتعصب الذي يحكمهم ورفض الاندماج، وهي عناصر شكلت تربة خصبة لتجنيد المهاجرين في التنظيمات الارهابية ودفعهم نحو تنفيذ عمليات في أوروبا وخارجها، او الالتحاق بدول عربية وإسلامية تعاني من اضطرابات وحروب أهلية، فيتم تجنيد العناصر بعد تعبئتها ايديولوجياً ووصف قتالها بالدفاع عن الدين.
تقف البلدان الأوروبية أمام معضلة كيفية التعاطي مع المهاجرين. ترفض هذه البلدان ثقافتهم الموروثة وتنكر عليها حقها في التربية والتعليم، وتدرك أن قسماً واسعاً من المهاجرين بات يشكل أخطاراً فعلية على الأمن الأوروبي. وفي الوقت عينه، تدرك هذه الدول أن حاجتها الى هؤلاء المهاجرين حاجة ماسة لأكثر من سبب، خصوصاً منه ما يشكلونه من طبقة عاملة ضرورية. في المقابل، يشعر المهاجرون بالحاجة الى التكتل عصبوياً والى التقوقع المتزايد خوفاً من أن يذهب الاندماج بخصوصياتهم، وأن يحتاجوا الى مشاريع تنموية تخرجهم من البؤس الذي يعانون منه. انها معضلة ليس من السهل إيجاد حلول لها، في وقت بدأ التهميش والتعصب يفرزان العنف الأعمى والارهاب في أوساط هؤلاء المهاجرين، فيواجهون بمزيد من العنصرية بدل السعي الى معالجة معضلاتهم واستيعاب مشاكلهم وتأمين كل الوسائل التي تساعد على الاندماج.