البروفسور الأب يوسف مونس
لا للانصهار او للالغاء انا «للمعية»
عندما كانت رياح الفكر قائمة على نظرية الانصهار والتوحيد، في عملية الغائية لكل مميزات الشعوب وخصائص المجتمعات والاتنيات في شخصيتها الأساسية وفرادتها الثقافية والفولكلورية وغناها التراثي التاريخي، كنت أرفض هذه المقولة، وغير قابل هذا الطرح اللاغي والمدمر لخصائص وغنى الشعوب في تنوعها الحضاري واختبارها الوجودي،
وفي علاقتها بالطبيعة وبما وراء الطبيعة بطقوس الحياة وطقوس الموت. فلا يمكننا في عملية انصهارية توحيدية أحادية إلغاء الهوية أو الشخصية الأرمنية ولا البيزنطية ولا المارونية ولا الدرزية ولا السنية ولا الشيعية، أو سواها من مكونات الشخصية اللبنانية الواحدة في وطنيتها والمتنوعة في التعبير عن ذاتها الحضارية والثقافية والدينية والطقوسية.
عندها طرحت نظرية «التعددية الثقافية» في الوحدة الوطنية والتنوع الحضاري في العيش معاً والمشاركة في الحياة وفي المصير. طرحت فلسفة «المعية» اي: «أن تكون» لا تعني أن تكون منفرداً معزولاً لا معنى لك بل أن تكون تعني ان تنوجد مع آخر وليس مع ذاتك غارقاً في «الأنا» التي لا تأخذ معناها الا في وجودك»، «أنت الاخر». فتصبح «أنا» تعني «أنا – إنت”.
فالآخر يعطي معنى لوجودي عندما احبه ويحبني أو عندما أبغضه ويبغضني هو بوجوده ونظره الي يخرجني من انغلاقي على ذاتي ومن نرجيسيتي وعدميتي.
فلسفة “المعية”
عندها طرحت النظرية الانتربولوجية الوجودية القائمة على فلسفة «المعية»، وقلت إن النهر اذا توحدت ضفتاه مات، وإن القصبة لا تعطي نغماً جميلاً الا عندما تشق. وهكذا الذات الأنسانية تمتلئ خصوبة في العيش المشترك والفرح بوجود الآخر والاغتناء به بمحبة واحترام وليس بعملية انصهارية «تدميرية» الغائية لبناء حضارة الموت وليس حضارة الحياة… إنها «عدمية» «قايينية» «ذئبية» حيث يقتل قايين أخاه أو ينهش الذئب رفيقه ، الحياة سوية في ثنائية وتعددية جغرافية وانسانية وتاريخية واتنية انتربولوجية طقوسية، في شعائر وانماط حياة وسلوك وتسلم قيم اخلاقية وجمالية، تصادمت الأفكار وكثرت الاتهامات والتهجمات عليّ، وبقي الزمن يحمل خصوبة وزخماً وغنى هذه النظرية حتى اليوم حيث صار الكثيرون يتكلمون عن «التنوع في الوحدة» والتعدد في الشركة في العيش المشترك والمصير المشترك والانتماء الى وطن واحد يقوم على احترام مجتمعاته لبعضها بعضاً والمشاركة في طقوسية الحياة والموت. هذا هو اليوم الحل الوحيد لتعايش المجتمعات المتعددة والمتنوعة والمفترقة معتقدات وقيماً وايماناً وذوقاً جمالياً وفناً فولكلوريا ومأكلاً ومشرباً ولباساً.
خصوبة الأفكار
الافكار تحمل في أحشائها خصوبتها او موتها ولها زمنها في الولادة والنمو والنضج والموت. التاريخ ينتظر منا مواعيد الحياة وعرس القيامة الدائمة للفرح والمجد. فنحن لن نستحم مرتين في المياه الجارية نفسها كما يقول الفيلسوف، ونحن كما قال فيلسوف آخر نعبر من الواحد الى الكثرة ومن الكثرة الى الوحدة لذلك ما قاله Democrite وHeroclite ما زال حقيقة تعاش على مدى الازمان De l’un au multiple et du multiple a l’un on ne se baigne jamais deux.
وحدة ثالوثية
الثالوثية المسيحية ترتكز على الوحدة اللاهوتية اله واحد في ثلاثة اقانيم، وحدة لاهوتية في ثالوثية الاقانيم والتجليات، اللاهوت المسيحي يسهل درب المعية والتنوع والتعدد ويبعد عن جلد الشعوب الانصهار والذوبان وفقدان وخسران تراثها وشخصيتها ومميزاتها. من هنا كانت الديموقراطية وليدة الفكر المسيحي مع نظرية الاشتراكية اقتسام خيرات الارض فكرة نابعة من الكتاب المقدس.
حوار الوجدانات
هذا هو حوار الوجدانات. فلا تكون كائنا جسدياً لحمياً بيولوجياً فقط، بل كائن التبادل الوجداني مع الآخر المختلف والمتمايز بفرادته. لان كل تدمير للاخر او كل الغاء له هو تدمير للذات نفسها والغاؤها واعدامها. وكل حب للاخر واحترامه هو الخروج معه واليه وبسببه من مدينة الطاعون La Peste التي تكلم عنها البير كامو Albert Camus. ” المعية” اذا هي شفاء النفس من برص انغلاقها والعيش في عرس من تبادل الوجدانات وليس في صميم من العلاقات، قال عنها سارتر Sartre: L’enfer c’est les autres جهنم هي الآخرون.
في تفجر الفكر المادي الجدلي اخترت حوار الحضارات والوجدانات وليس صراعها وتصادمها رافضاً اللاعرفانية AGONSTICISME في عملية تسام بالعقل والروح والتراقي الى مراتب التصوف والتطهير Catharsis الكياني من ترابية الجسد وإلغائية المادة بالاتجاه الى العقل المنور بالعلم والفلسفة والانتربولوجيا واللاهوت وقبول الحقائق الاساسية او المسببات الجوهرية في الاختبار الوجودي بامتلاك للذاكرة التاريخية والجمالية الطقوسية الواعية البعيدة عن التزمت او الارتجال.رافضاً العنف منادياً بالحب وعظمة الفعل القرباني لخلاص الانسان والعقل والمجتمع.
ابن الطبيعة وما وراء الطبيعة
فالمفكر او الفيلسوف هو الشاهد الذي يقرأ الحاضر في ضوء اختبارات الماضي ويتصور المستقبل على خصوبة وجمالية الايام الآتية. فكنت ابن الجبال العالية والثلج والريح والضباب، وكنت ابن الوديان المقدسة وبخور المجامر وحفيف مشالح الرهبان والنساك وأناشيد صلواتهم ومزامير أدعيتهم ليل نهار. وابن البحر الواسع بأفقه اللامتناهي ودروب الهجرة والرحيل للمراكب والأشرعة وعبور الطيور المهاجرة والناس المهاجرين أو العائدين من الغربة والكآبة والرحيل، وابن السهل في خصوبته وغلاله ومواسمه وخيراته، وتبادل الفصول عليه بألوان تقول قصة الجمال وتمجد خالق الوجود واللازوال…
يسحرني الجمال منتقلاً من التيولوجيا Theologia الى الفلسفة Philosophia الى الفيلوكالياPhilocalia أي حب الجمال لان الجمال وحده سينقذ العالم كما قال Tolestoi تولستوي… البعد الخلاصي والفرح القيامي القاهر الموت كانت اوتار قيثارتي وعودي ومزماري…
مسافر إلى الجهة الاخرى
اخذني وهج الرحيل منذ ساعة قدومي، فأنا مسافر الى الجهة الأخرى، راحل لا أتوقف هنا في عبور يعصف به الشوق إلى لقاء وجه الحبيب الذي احبني، تجسد، تألم وافتداني مات، وقبر وقام لاجلي لتكون لي الحياة الابدية…
فأنا بعض مني مسحور بجمال الإيكونستاذ الارثوذكسي وبعض آخر بالفاجعة الشيعية وبعض بالعقل والعرفان الدرزي، بالرحمة السنية بعض آخر لانه الله رحمان رحيم، وبعض بالشك والقلق البروتستانتي، وبعض بالابادة الارمنية ومذابح كل الشعوب والاقليات وهروبها ولجوئها الى الحرية في جبل لبنان.
الاخر هو وجه المسيح
الاخر هو اخي الحامل وجه المسيح الجائع والعطشان والعريان والمهجر والغريب والمشرد، والذي قست عليه الايام فلا غذاء عنده ولا دواء ولاكساء ولا ايواء، بل يطحنه المرض والفقر والبؤس والغربة، هو المهمش، المرذول والمنبوذ الذي تماهى به المسيح فأصبح هو المسيح الآخر بيننا، هو الذي قال عنه يسوع: كنت جائعاً فما أطعمتموني وعطشاناً فما سقيتموني وعريانا وما كسوتموني ومريضاً ومسجوناً فما زرتموني وغريباً مشرداً وما آويتموني.
ويصبح عندي فعل الكينونة أن انوجد في المسيح ولأجل المسيح ومع المسيح، وفي الآخر ومع الآخر ولأجل الآخر في وجود تسوده المحبة.