طريقُك إلى الآخر (4) ألفنّ

elie

إيلي مارون خليل

(أديب وشاعر- لبنان)

لعلّ الفنَّ، في غاية، له، واضحةٍ وراقية، طريقةُ حياةٍ جميلة، رائية، خيّرة، صادقة، ناضجة، مسؤولة.

فهو، بما أنّه خَلْقٌ وإبداعٌ، يُنتِجُ الجميلَ. كلُّ جميلٍ يُسعِدُ، يُطَمئنُ، يُريح. والسّعادةُ غايةٌ حياتيّةٌ نفسيّة، يعملُ الإنسان، جِدّيًّا، في سبيلها، حالِمًا بتحقيقها. ولولا هذا، لَظَلَّ الكونُ أقلَّ جَمالًا؛ أقلَّ سعادةً؛ أقلَّ طمأنينةً؛ أقلَّ راحة. إذًا أقلَّ سلامًا. في هذا الجَمالِ، سبيلُك إلى السّوى، وسبيلُ السّوى إليك.

والفنُّ رؤيا! ألرّؤيا نَفاذُ بصيرةٍ إلى الآتي من السّنوات، وتَخطيطٌ طَموحٌ، واعٍ، جميلٌ، صائبٌ، خيّرٌ، للحياة الّتي نتعبُ، جميعُنا، لكي نحياها، على أفضل ما به نحلُمُ، بما يُداني المِثال. أليستِ القصيدةُ، مثلًا، أو الّلوحةُ، أو السّيمفونيّةُ، أو المنحوتةُ، أو تصميمُ الرّقصة، أو أيّ فنّ جميل آخر، طريقةَ حياةٍ جديدة مبنّية على رؤيا مُستحَبّة!؟ وهذه الرّؤيا ـ الرّؤى، أوَليست، بدَورِها، سبيلًا بيننا: أفرادًا وجَماعات، يقرّب ويبني، يُغْني ويُثمِر!؟

والفنُّ خيّر. هو الخير الخيّر. يؤالف بين الإنسان وذاتِه. ويُناغِمُ. ويهدمُ السُّدودَ. ويفتح الآفاق. ويَسمو بالخيّر. ويُنزِل عليه السّعادةَ والطّمأنينة والسّلام، إذًا المحبّةَ والتَّسامُح. وعلى هذا، فأنت تَغوص في الآخر، يكون نعمتَك ورسولَها منه إليك، كما كنتَ، أنت، نعمتَه ورسولَها منك إليه! وإذا أنتما، وتاليًا الجَماعةُ، خيْرٌ بخير، ويُشرِقُ وجهُ اللهِ على الكون الخير الخيّر.

ولا يُمكِنُ الفنَّ إلّا أن يكون صادقًا، وصادقًا جدًّا، وافرَ الصّدقِ. ذلك بما أنّه دَفْقُ النّفْسِ، يَفيضُ فيها ومنها، مُجَسَّدًا بقصيدة، أو لوحة، أو سيمفونيّةٍ، أو… والصّدقُ انهمارُ السّلام على الرّوح، وانبِجاسُه منها، ما يَسكب الطّمأنينةَ على المرء، يلفُّه بها، فيُشرِقُ على ذاته ومُحيطِه، ضوءًا يُشيرُ إلى السُّبُل القويمة، آمنةً، نحو الغد، ما يُسهِم في البُلوغ إليه، عن طريق الفرد المستنير، والجماعة المُحيطة، فتتواكبُ النُّفوسُ، مُحتفِلةً بالجَمال أنجبَ الرّؤيا الخيّرةَ الصّادقةَ، جامِعًا مشترَكًا مُوَحَّدًا موحِّدًا مؤالفًا.

وما لا شَكَّ فيه أنّ الجَمال الرّائي، الخيّرَ، الصّادقَ، ناضِجٌ هو النّضوجَ كلَّه. فالجَمال، من دون رؤيا، نَقصانٌ يُسقِطُ في الرَّتابة. والنُّقصانُ والرَّتابةُ بعيدان يُبعِدان من الخيّر. فالرّؤيا الجميلة الصّائبةُ تؤدّي بالفرد، كما بالجماعة، إلى النّتائج الخيّرة. ذلك أنّها تنطلقُ من الذّات الصّادقة. والصّدقُ تاجٌ يُتوّجُ الرّائينَ الخيّرين.

أمّا النُّضْجُ، فتتمّة طبيعيّة لما سبق، وإلّا فهو مُشَوَّهٌ بالنُّقصانِ الّذي يَجعلُه من دون قيمة، ولا أهمّيّة. فهو دلالةُ عُمْقِ فِكرٍ، وسلامتُه، وانفتاحه، وانطلاقُه. ألنّضْجُ اختِمار الثَّقافةِ في الإنسان، ما يَعني وعْيه وحُسْن تَصَرُّفِه. هذا يُسهِمُ في جعل هذا المَرْءِ مِحْوَرًا لمَن حوله، يتقاطَرون إليه، يَستجلونَه الغامضَ والصّعْبَ، مُنتصِحين فَرِحينَ مُطْمئنّين. ألنّضْجُ يتوِّجُ الجمالَ الرّائي، الخيّرَ، الصّادقَ، وإلّا، استمرَّ الإنسانُ متعلّمًا أُمّيًّا، حضاريًّا هَمجيًّأ… ما يجعلُه مَثارَ سُخْرٍ، فينتحي، مُنزَوِيًا، ناشِجًا، نادِمًا، مُستبعِدًا ذاتَه، خَجِلًا بنفسِه ومنها، محاوِلًا اكتسابَ فوق ما يقدرُ عليه، علّه يستثمرُ مكتسَباتِه في سبيل الَّلحاقِ بمَن يسبقونه، آمِلًا أن يستطيعَ التّعويضَ والارتقاءَ.

وبعدُ،

تبقى الإشارةُ إلى المسؤوليّة. وأزعمُ أنّها وعيٌ واعٍ ورصينٌ ومؤتمَنٌ على القِيَمِ الّتي سَلَفَتْ. فإلّم يشعر الإنسانُ بمسؤوليّتِه عن جَمال الكون بمَن فيه وبما: بشرًا وجَمادًا ونباتًا وطيرًا… كان كائنَ النُّقصانِ والظُّلُمات! ما للنُّقصانِ وُلِد الإنسانُ، ولا ليكون كائنَ الظُّلُمات. مثْلُ هذه الكينونةِ فَراغٌ يُفْضي إلى فَراغ! فالنُّقصانُ عيبُ الرّوحِ، ما يُحَوّلُها ذلًّا في ذُلّ. وكائنُ الظُّلُماتِ تتفجّر فيه العَتَماتُ الأشدُّ إظلامًا من الآثام والشُّرور، ما يجعل نفسَه بؤرةَ جَهالةٍ مُكَلَّسةٍ بالقُبْحِ، مُلتفّةٍ بنُفاياتِ الأرواحِ النَّتِنة، المظلمةِ. هذا يبتعد به عن كلّ جميل وراءٍ وخيّرٍ وصادقٍ وناضج… ما يُفقدُه دَورَه كمتنوّرٍ، وقيمتَه كاحتمال أن يبرزَ قائدًا تقودُه القِيَمُ، تؤدّي به إلى قلب السّكينة المُطْمئنّة المُشرِقةِ أبَدًا.

هكذا يكون الفنُّ، ويَستمرُّ، طريقَك الجميلَ… إلى الآخر! وتبقى، أنت، شريكَ اللهِ في خَلقِه وإبداعِه!

(ألخميس 17 -3 -2016)

fan

 

اترك رد