الحقيقي والشكلي في حديث التسويات

khaled-ghazal

خالد غزال

(باحث وكاتب – لبنان) 

لا يصدر الحديث عن تسويات في المنطقة، بل السعي الى تحقيقها، عن فراغ. فالحروب المندلعة منذ أكثر من خمس سنوات استنزفت وأرهقت بلداناً عربية، وبدأت شظاياها تتناثر خارجياً، وتهدد بالخطر الأمني دولاً غربية متعددة. لكن مسافة شاسعة تفصل بين النوايا والاستعدادات وبين تحقيق وقائع ملموسة على الأرض خصوصاً في ثلاثة بلدان هي سورية واليمن والعراق. لتوفر التسوية، تحتاج القوى الدولية الراعية الى قرار حازم يلاقيه استعداد داخلي ناجم عن اقتناع القوى المتصارعة استحالة الحسم العسكري والاقتناع بقبول الحد الممكن من المطالب.

في سورية، بدأت المفاوضات مجدداً في جنيف تحت رعاية اميركية – روسية وحضور وفود من المعارضتين السياسية والعسكرية، لكنها تعثرت بعد فترة وجيزة من انطلاقتها. لا يبدو مستعصياً تفسير هذا التعثر، فالراعيان الدوليان غير متفقين عملياً على مفاصل الحل السياسي، فالروس ما زالوا يتخذون بالكامل موقفاً يصب في مطالب النظام، تدعمهم ايران في هذا الموقف، فيما ما زال الموقف الأميركي يتصف بالتذبذب والتردد. ما زالت عملية الانتقال السياسي ومصير الرئيس السوري نقطة الخلاف المركزية والتي تخفي وراءها صراع المصالح الداخلية والخارجية. لعل المعضلة المركزية في سورية تتمثل في ان التسوية مستحيلة مع بقاء رأس النظام والكتلة المحيطة به، وان الإطاحة بالرئيس تعني لأهل النظام السوري وللراعيين الايراني والروسي انهيار النظام بمجمله. هذا التعثر في الوصول الى تفاهم جعل التسوية في مرحلة انهيار شبه تام، وهو أمر يريده النظام الرافض تقديم تنازلات والحالم دوماً بالحسم العسكري. قد لا يعني ذلك انسداداً كاملاً لعودة المفاوضات، لكن لا يحلمن أحد بنتائج سريعة. للتذكير، ان مفاوضات الحرب الأهلية اللبنانية بدأت منتصف الثمانينات من القرن الماضي ولم تصل الى تسوية الطائف إلا مطلع التسعينات منه.

sytia

محادثات جنيف

في العراق، يبدو المشهد متفجراً على صعيد البنية السياسية. فالحرب ضد «داعش» تمر في مد وجزر، تحكمها حدود الرغبة الحقيقية، والمشكوك فيها، في إنهاء هذا الملف خصوصاً من دول التحالف الغربي، والكف عن استثمار هذا الملف لتحقيق مصالح هذه الدول. لكن الأخطر في العراق هو انفجار مكوناته البنيوية في شكل غير مسبوق معبراً عن نفسه بالصراع الطائفي والمذهبي على السلطة، وهو صراع مندلع بين المكونات بعضها ضد بعض، وفي داخل المكونات المذهبية نفسها. صحيح ان هذا الصراع ليس ابن اليوم، بل هو يمتد الى مطلع القرن مع احتلال العراق وإنهاء حكم الديكتاتورية. تبدو التسوية المقترحة والجاري نقاشها ضمن وجهة تكوين نظام محاصصة طائفية ومذهبية، سيمر الوصول اليها عبر مسالك وعرة، تبدأ بتلاعب الخارج بالمكونات البنيوية نفسها، وينتهي بصراع طاحن بين الطوائف والمذاهب، تؤسس لصراعات مستقبلية ساخنة. وهنا ايضاً، يظهر ان العراقيين «يستلهمون» النموذج اللبناني في إنتاج نظام محاصصة طائفية، هو مصدر الخراب الأساسي للبنان، وكذلك سيكون مدمراً للعراق.

irak

العراق

البلد الثالث الذي يسعى الى تسويات هو اليمن. بعد حرب استمرت أكثر من عام، وانهكت القوى المتحاربة، داخلياً وخارجياً، ها هي المفاوضات الدائرة تعاني تعثراً ناجماً أيضاً عن مدى استعداد قوى الداخل القبول بتسوية تنهي هذه الحرب. لا أحد ينكر أن الحوثيين ومن معهم يشكلون واحداً من مكونات النسيج الاجتماعي في اليمن، وأن أي تسوية محكومة بأن تفسح مكاناً لهم في العملية السياسية. لكن المعضلة هنا تكمن في الدور الخارجي المعيق لإنجاز تسوية والمتمثل بالتدخل الإيراني والتأثير على قرارات الحوثيين. تستهول ايران فقدان موقعها المؤثر في اليمن، الذي كانت تعتبره مدخلاً مهماً للهيمنة على مناطق في الخليج العربي، لذا تسعى الى إفشال المفاوضات والاستمرار في القتال. وهو أمر يكلف اليمنيين ضحايا على غرار ما هو حاصل في سورية. لذا من المتوقع أن تشهد المفاوضات اليمنية مراحل من مد وجزر قبل ان تقتنع الحركة الحوثية بتسوية تضمن لها موقعاً في السلطة السياسية في البلد.

لعل المعضلة الكبرى في الأزمات المفتوحة تتصل بضمور فعالية قوى الداخل وعجزها عن صياغة حلول تتوافق مع مصالح بلدانها، وتأمين القوى المحلية لتنفيذها. هذا الضعف والإنهيار البنيوي جعل من الخارج قوة محددة لمسار الحلول والتسويات، فقد بات هذا الخارج داخلاً بكل معنى الكلمة. في مثل هذه الحالات، تغلب مصالح قوى الخارج على المصالح الداخلية، وترتهن قوى الداخل الى ما تراه القوى المسيطرة من الخارج.

yaman

اليمن

اترك رد