أحمد الصغير
(أديب وقاص- تونس)
تلك الشرفة العالية مازلت أذكرها … وتلك الزيتونة الهارمة مررت بها ذات يوم … الكلب الابيض الرابض تحتها لاحقني مرات عديدة و مازال هناك …حاوية الفضلات على مكانها لم تتزحزح، و تلك البقعة المحفّرة على الرصيف تجاوزتها مجريات التاريخ فاذا هي على حالها …
بائعة التين الشوكي تقف على نفس العربة السوداء تردد نفس الكلمات ، و بائع الشاي الأحمر لم يبتعد عنها كثيرا …المشهد غير قابل للتجديد … فالمكان هو الكمان ، بنفس الطلاء … الابواب و الشبابيك على هيئتها … و بعض القطط الشريدة تموء جوعا أو ربما رغبة في التجانس … عند منتصف النهار تنبعث من المنازل رائحة أطعمة الغداء قبل عودة الأطفال من المدرسة …
هناك في ركن الشرفة الأيمن وقفت كعادتها كل مساء … وقفت تمسك فنجان قهوتها الشهية … ترتشف فاذا على وجه القهوة رغبة في ملامسة شفتيها الشهيتين … ثوبها الوردي الشفاف يتماوج مع هبات النسيم الشرقي ، فيلتصق بجسدها حينا ليكشف عن ادق أسراره و تموجاته ، و يحكي قصة تماهيه اليومي في هذا الجسد الانثوي الرقيق .. ويبتعد حينا لتهدأ أنفاسه اللاهثة …
على صور شرفتها وضعت أواني مشكلة زرعت فيها قرنفلا و نعناعا عربيا … في الزاوية الأخرى وضعت كرسيا و طاولة صغيرة عليها مجلة فيها ارقى أنواع المكياج و أدوات الزينة …. و مطفأة سجائر .
في تلك الشرفة كانت تقف مساء فتتمهل حركة المارة على رصيف الشارع … و يتفق جميع العرب على رفع رؤوسهم نحو الشرفة …. نحوها.
في مقهى المغرب العربي الكبير ، قبالة الشرفة … اتخذت لي مكانا و قهوة مساء يومية … كنت أرقب لحظة خروجها و فنجان القهوة في يمناها … كانت علامة التسليم بيننا أن يمسك كل منا فنجانه بكلتا يديه … و علامة مغادرة أحدنا ، أن يمسك قهوته بيده اليسرى … لم نكن نتحادث الا أننا قلنا جميع كلام الحب و أكثر …. في صمت عميق كانت قهوتنا تروي مشاعرنا …
اشتقت لقهوة المساء ، فلم أعد أشربها … فهي لم تعد تجلس في شرفتها … كل مساء.