… و… يَبتلعُ النِّسيانَ!

raymond chebli

 ريمون شبلي

(أديب وشاعر – لبنان)

 كثرةٌ من الناس تُغادر هذه الفانيةَ فيبتلعُها النّسيانُ، وقلّةٌ منهم هي التي تَبتلعُه!

نَعَم !

فكلُّ مصطفى مقدَّسٍ/ وكلُّ مبدعٍ نَضِرْ/ وخَيِّرٍ عَطِرْ / وعالِمٍ مُبتكِرْ / مغايرٌ يخلدُ في الذّاكرهْ…./ وكم وجوهٍ عبَرتْ / ومثلها عابرهْ / مصيرُها في ظلمةِ الحُفَرْ!

وجهُه وإطلالتُه، بسمتُه والصّوت، كلماتُه ومؤلَّفاته… كلُّها أقوى من الموت… هو الأب د. جورج كرباج.

*

كلّما كتبتُ عن صديقي الكبير الرّاحل – السّاكن في النّفوس والعقول والذّاكرة الأب جورج تفتّح في وجداني شعورٌ بالسّرور وبنشوة عُلْويّة.

فالكتابةُ عنه إبحارٌ في شخصيّةٍ فذّة، فكرًا مضيئاً دائم التّجدّد، وعقلاً راجحًا يُثقلُه الحكمةُ، وقلبًا طفلًا شديدَ التوقّد، وروحًا نسكيّة طوباويّة يُسكرها التّزهُّد… شخصيةٍ منحوتة في مسيرة الإبداع والزّمان.

***

“Père جورج ” (هكذا كنت أُخاطبُه دائمًا، وكثيرًا كان يُخاطبني بـ ” الشّاعر الحبيب”): أشعرتَ يومًا بالنّدم على أنّك راهب؟

سؤال طرحته عليه أكثر من مرّة، في خلال صداقتنا الطّويلة، وجوابه كان جازمًا لا يتغيّر :” مطلقًا… فأنا، منذ انتمائي الى الرّهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة، في سعادة لا توصف”.

والأب جورج، الذي دخل الرّهبانيّة في الحاديةَ عشْرةَ من عمره (عام 1952) وخرج منها إلى ديره السّماويّ في ذكرى ميلاده وعيد شفيعه مار جرجس في 24 نيسان 2015، قد سلك طريق العطاء والعصاميّة والحركيّة، والتحصيل العلميّ الذي توَّجَهُ بعدّة شهادات أبرزُها وأعلاها دكتوراه في الفلسفة وعلم النّفس نالها من فرنسا.

وفي مسيرته “المسؤولياتيّة” الطّويلة والنّبيلة والجليلة، لم يجعلِ المنصبَ (أو الوظيفة) خادمَه، وإنّما قد جعله خادمًا كلَّ محتاج وصاحبِ حقّ. فالأبُ جورج استثمر المناصبَ التي تَبوَّأها في الرّهبانية [رئيس أديار، مدبّر عامّ، رئيس مستشفى بيت شباب للمعاقين (12 سنة)، مدير ثانويّات رهبنته، مدير فرع جامعة الرّوح القدس – زحله ( 6 سنوات)] أو في الجامعة اللبنانيّة [أستاذ محاضر أكثر من ثلاثة عقود، ورئيس قسم الفلسفة فيها مدّة طويلة] من أجل الخير العامّ الى حدّ نسيان الذّات، والمغامرة في سبيل البناء والعطاء والإفادة، مردِّدًا دومًا : ” الله بيدبّر”.

george-kerbage-1.-jpg

***

شهاداتٌ بلا عطاءاتٍ وإبداعاتٍ ينابيعُ محدودةٌ أو مسدودة، وينابيعُ متفجّرةٌ ترافقها شهاداتٌ أو لا، تزيد وتفيد وتُغْني.

ومن نعم الرّبّ على الأب جورج موهبتُه – ينبوعُه الإبداعيّ بكلمته البسيطة- العميقة، الجميلة – النّبيلة، الرّاقية-الأنيقة التي مَزجت العقل والماورائيّات والخيال والفلسفة واللاهوت والإيمان والجمال في قيمةٍ غالية هي هو.

وعلى الرّغم من إتقانه أكثرَ من ستّ لغات، كلامًا وكتابة، كان الأبُ جورج ينجذب إلى العربيّة ويفضّلها على غيرها تعبيرًا عنه ( كما كان يقول لي). لذلك، فقد كتب بها معظم كتبه، وباللبنانيّة قليلها؛ وأهمّ مؤلّفاته :

النّداء – أمّ لبنان – الكرسيّ – قاتل التّنّين (مسرح) – عبوري إليك (جزءان) (وجدانيّات) –  موعد مع الذّات (إضاءات على النّفس) – إغفر لنا (إضاءات على النفس) –  بالحبّ كلّ شيء لكم (تأمّلات) –  قبلات على فرح الطّفولة (وجدانيّات وتأمّلات) – سِفْر أناشيدي (وجدانيّات وتأمّلات).

هذه المؤلفّات المنشورة (وغيرها الذي لا يزال طيَّ دفاتره ينتظر أن يُطلَقَ إلى النّور) قاماتٌ قيّمة تستحقُّ وتستأهل أن تتناولها دراساتٌ جامعيّة معمَّقة، تفي الأب جورج حقَّه وقيمته وأهميّته، وتُفيد الثّقافةَ والحضارةَ والإنسان.

***

أيهّا الأبُ جورج الطّوباويّ الحيّ في سمائك الى الأبد، وأنت مبدعٌ والمبدع لا يموت،

حيثما كنتَ تحلُّ بعباءتك المضيئة بالسّواد، كانت تحلّ حركتُك المثمرة والمثقلة بالبركة والحصاد، وصدمتُك الإيجابيّةُ المشرقةُ والمشرِّفة.

من هنا، نحن نصلّي، ومن ديرك الفردوسيّ المشتهى أنت تبارك.

كنت العاليَ – المتواضعَ ، والرّاعي – المثلَ الصّالح ، والمميَّز.

كم يحتاج مجتمعُنا إلى أمثالك، ونرضى حتّى بشبْه أمثالك، ليستقيمَ الإنسانُ، وينهضَ لبنانُ!

(ساقية المسك – المتن – 2016)

*****

(*) لمناسبة الذكرى السنوية الأولى لوفاة الأب جورج كرباج في 24 أبريل 2015

white-rose-with-purple-outline-hi 

اترك رد